في حالة العزوف الفجائية للطالب عن إدامة الدراسة في المدرسة؟

“أخي لا يريد أن يذهب إلى المدرسة وحسب”، قالها أحد الأصدقاء محدثا وهو يحكي بحرقة وشفقة وحب -في ذات الوقت- قصة شقيقه الشبل، الطالب المسجل في الفصل السادس الابتدائي. قال الصديق وعلامات الضيق بادية على قسمات وجهه، وهو ينتظر بلهفة وأمل تلك اللحظة التي يغير فيها أخوه موقفه: “بدأ العام الدراسي، والتحق أخي البالغ من العمر الثانية عشرة بالفصل السادس الابتدائي بإحدى مدارس البلاد. ويمكنني القول أن أخي ليس طالبا حاد الذكاء، ولكنه ذو ذكاء متوسط أوعادي. بدأت الدراسة، وبعد مدة وجيزة رأيناه يفصح لنا بصراحة بأنه لا يريد الذهاب إلى المدرسة ! لقد وقع علينا هذا القول وقعا شديدا، وأصبنا بالصدمة من جراء هذا الموقف المفاجئ منه، خصوصا وإنه أصغر أفراد عائلتنا، ونريد له أن يكون فردا متعلما. وطفقنا نتساءل: كيف له أن يتوقف عن الدراسة؟ وكيف نتصور مستقبله بلا تحصيل علمي؟ وما هي الأسباب من وراء ذلك؟ هل أرهبه أحد أو آذاه؟. بدأنا نحاول إقناعه بأن الدراسة أمر جيد ونافع في الحياة، بل هي جانب ضروري لتأمين المستقبل، ثم أخذنا نستكشف احتياجاته الشخصية، وسألناه إن كان يحتاج إلى أشياء لكي نوفرها له، فكان يجيبنا بغضب شديد: لا أحتاج شيئا، وكل ما أطلبه أنني لا أريد الذهاب إلى المدرسة وحسب. وأكثر من هذا أنه كان بعد خروجه يوم الخميس من المدرسة وعودته إلى المنزل يحس بفرحة شديدة، وينتابه شعور بأن أمرا ثقيلا قد انزاح عنه ولو مؤقتا، ومع انتهاء الإجازة الأسبوعية والاقتراب من بداية الدوام المدرسي، تنقلب تلك الفرحة وذلك الشعور بالفراغ المؤقت إلى حزن وضيق شديد، ونرفزة وشد عصبي. وكنا إذا طلبنا منه أداء واجباته المدرسية: انفجر بالبكاء، وصاح في عصبية : قلت لكم، لا أريد الذهاب إلى المدرسة، فلا ترغموني على ذلك. حاولنا التعرف على الأسباب التي جعلته يعزف عن الذهاب إلى المدرسة، ويشعر بالملل والضيق من الذهاب إليها والدراسة فيها. سألناه: هل آذاك أحد أو اعتدى عليك؟ هل تعرضت لضرب أو تهديد من قبل أحد المدرسين؟في البدء أخذ يكرر موقفه القاصد ترك الذهاب إلى المدرسة، لكنه بعد إلحاح منا أجاب: نعم، تعرضت للضرب المتكرر من بعض المدرسين بسبب تخلفي عن أداء الواجبات، والواقع أنني لا أستطيع استيعاب ما يقوله المعلمون”.

ويواصل الصديق سرد قصة أخيه، تائقا بشدة إلى تلك اللحظة التي يغير فيها أخوه موقفه، ويعود رغبانا إلى حب الذهاب إلى المدرسة وحب التحصيل فيها، فيقول: “استخدمنا معه مختلف الأساليب، وتناوب على نصحه عدة أشخاص من أفراد أسرتنا، فتارة نشجعه على الدراسة ونحببها إليه، ونعده بأن نوفر له ما يحتاجه، وتارة أخرى نستنكر تصرفه، ونحذره من مغبة التوقف عن مواصلة الدراسة. ثم أن والدي زار المدرسة ذات صباح، والتقى مع مديرها ومشرفها الاجتماعي، وطرح عليهما موضوع أخي، وتشاور معهما فيه، فوعداه بأنهما سيدرسان موضوعه، وسيلفتان انتباه المعلمين إلى مسألة تركيز الاهتمام به. ولكن مع كل ذلك، ما زال أخي يعيش حالة عزوف عن الدراسة، ويصر على ترك المدرسة، ولا ندري ما هي الأسباب من وراء ذلك”.

انطلاقا من الحالة المذكورة، ينبغي ذكر أن حالة العزوف عن الدراسة هي أمر ممكن الحدوث بين طلاب المدارس، وتزداد إمكانية حدوثها بين الطلاب الذين يتعرضون لأسباب أو يعيشون ظروفا تؤدي أو تساعد على العزوف، ومثال ذلك الضرب المتكرر وخصوصا المبرح من قبل المعلم، والإحساس بالصعوبة فيما يتعلق بالاستيعاب والفهم، والإصابة بحالة نفسية معينة – مثل القلق والاكتئاب والخوف – تجعل الطالب مالاًّ من شيء إسمه الدراسة. يضاف إلى ذلك الضرب المؤلم من قبل الوالدين إذا كان لدواعٍ دراسية، كالتقصير في الدراسة وأداء الواجبات وما شابه ذلك،وربما بسبب تعرض الطالب للضرب المؤلم من قبل أحد الوالدين لسبب آخر غير التقصير في الدراسة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: كيف التصرف إزاء مثل هذه الحالات؟

هناك من الآباء والأمهات ما إن تحصل لابنهم أو ابنتهم مثل هذه الحالة، تجدهم يلجأون إلى أسلوب الشدة مع الطالب، فيقومون بتوبيخه ولومه وضربه ووعيده وتهديده وإرغامه على الذهاب إلى المدرسة بأي شكل من الأشكال ومن دون تفاهم وحوار. وبديهة أن هذا الأسلوب مجانب للصحة، لأنه يتعامل مع ظواهر الحالة دون التوجه إلى التعرف على الأسباب المؤدية إليها، وبهكذا أسلوب فقد يتصلب الطالب إلى موقفه، ويزداد عنادا وإثباتا لذاته. وقد يستجيب تحت ضغط الشدة بالضرب، ويذهب إلى المدرسة، لكن هذا الذهاب يحمل معه بقاء الأسباب المسببة لحالة العزوف، وقد يضطر الطالب للحضور إلى المدرسة لكنه من حيث التحصيل العلمي قد لا يحقق فائدة تذكر، ويظل متخلفا في دراسته.

ولذا، فإن أولى الخطوات في معالجة هذه الحالة هو محاولة التعرف إلى الأسباب الفعلية التي أدت إليها، وبمعرفة السبب يتوجه علاج الحالة إلى معالجة السبب نفسه. كما هو حال علاج الأمراض، إذ الطبيب يسعى في البدأ إلى التعرف على مسببات المرض، وبعد كشفها وتشخيصها، يقوم بتقديم الوصفة التي تحاول القضاء على ذلك المسبب (الجرثومة أو الميكروب أو الفيروس) والأعراض الناتجة عنه أيضا، بالإضافة إلى الحمية التي تساعد على الشفاء من المرض وتمنع تفاقمه.

وفي هذا السبيل، ينقل صديق آخر قصة أخرى مشابهة، فيقول: “كنت مقيما في دولة أوروبية لفترة، وكان عليّ أن أسجل ولدي البالغ من العمر ست سنوات في المدرسة الناطقة بلغة ذلك البلد. وقمت بتسجيله، وحينما بدأ العام الدراسي بدأ كغيره من طلاب المدرسة بالدوام، ثم أن فصل الشتاء ببرده القارس قد أقبل، وكان عليه أن يمشي معي أو مع والدته في الصباح الباكر لمسافة 200 مترا تقريبا، حيث كانت المدرسة قريبة إلى المنزل. وفي هذه الظروف وجدنا طفلنا -ذات صباح- متثاقلا عن النهوض، ويصر على التشبث بفراشه، ولا يريد الحضورإلى المدرسة. يقول الصديق: لقد غضبت وغضبت أمه من هذا الموقف، وبدأنا نلومه ونوبخه بغضب وشدة، حتى بكى، لكنه في نهاية المطاف انصاع لأمرنا بعد التي واللتيا، فقمنا بإيصاله إلى المدرسة. ثم أننا بعد ذلك أخذنا نتعرف على الأسباب التي جعلته يحجم عن الذهاب إلى المدرسة، وفي البداية أحس بالخجل ولجأ إلى الصمت ولم يخبرنا بشي، لكننا طمأناه إلى أننا نريد مساعدته وتخفيف الأمر عليه، فتبين لنا أن سبب إحجامه المفاجئ عن المدرسة هو برودة الطقس، خصوصا وأنه طفل صغير، وأقنعناه بأننا سنلبسه مزيدا من الملابس التي تحفظه من البرد، كما قمنا بزيادة ثقته بنفسه، وأخبرناه بأنه ليس الوحيد الذي يذهب إلى المدرسة في مثل هذه الأجواء، وأن كثيرين مثله مداومون على الذهاب. وبعدها عاد إلى الذهاب إلى المدرسة بصورة طبيعية”. ويضيف الصديق بقوله : “كان الأولى بنا ابتداء أن لا نعنف معه، بل أن نتفهم حالته ونتعرف على أسبابها”.

إننا قد نلجأ إلى أسلوب الشدة مع أبنائنا في مثل هذه الحالات ربما لأنها أقصر الطرق للعلاج حسب اعتقادنا، وننسى أن إبننا في حالات مثل هذه قد يكون معذورا، ويحتاج الأمر منا إلى أن نتفهم حالته والأسباب التي أدت إليها، خصوصا حينما يكون طفلا صغيرا، وغير قادر على التعبير عن السبب الكامن وراء المشكلة. طبعا لا ينبغي أن يفهم من هذا أن نختلق لأولادنا المبررات لكي يقعدوا عن الذهاب عن المدرسة ويكفوا عن الدراسة والتحصيل العلمي، بل المقصود أن نتعامل مع الحالة بصورة إيجابية، تجعل الطالب بعدها يعود إلى مواصلة الدراسة بصورة طبيعية.

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى