الجمال في عيون الناظرين.. نظرة أخرى
منذ أن فتح الإنسان عينيه على هذه الحياة برزت معه فكرة الجمال، والإحساس به، فأصبح الإحساس بالجمال وتذوقه والانبساط به وإليه جزء من تكوينه وفطرته، ومميزا من مميزات طبيعته. وما من إنسان إلا ويحب الجمال في قرارة نفسه وينبسط به، ويميل إليه وينجذب، وإنسان بلا ميل إلى الجمال، وبلا حب له وانبساط به هو نوعية تعيش حالة من الخلل واللاطبيعية والشذوذ والانحراف عن السنن الحياتية والتكوينية التي فطر الله الناس عليها، إذ أنه تعالى جميل يحب الجمال، وشاءت قدرته أن يفطر عبده على خُلُقه، أي خُلُق حب الجمال والميل والانبساط إليه، ويريد سبحانه أن يرى آثار نعمته عليه، والجمال من تلك الآثار والنعم بلا أدنى إشكال أو ترديد.
وابتداء من تلك الفطرة، فقد شغلت فكرة الجمال النوعَ الإنساني منذ بداية الحضارة الإنسانية، وما زالت وستظل تشغلها، وهي فكرة كونية يشترك في الإحساس بها كل البشر، على اختلاف مشاربهم وأعراقهم وألوانهم وأديانهم وثقافاتهم وبيئاتهم وموقعهم الجغرافي. وانطلاقا من المعنى العام للجمال يمكن القول: ما غالبية الآثار التي تركتها وتتركها الحضارات الإنسانية سوى تجليات وتطبيقات عملية لمعنى حب الجمال، سواء الآثار الإيجابية منها التي تُري حب الجمال نفسه، أو المنفية التي تُري كره القبيح، باعتبار أن كره القبيح هو صورة أخرى لحب النقيض له وهو الجمال.
لكن فكرة الجمال -إضافة لمجالها الواسع- هي فكرة مطاطة قد تفهم من زوايا مختلفة، وهذا الفهم المختلف قد يوصلها -في حالات- إلى مستوى تبرير القبح والسوء بأنه جمال، اتكاء على ما يمكن تسميته بـ”النسبية” في مفهوم القبح والجمال، أو فقدان المعايير الضابطة لمفاهيم الجمال وتجلياته وتطبيقاته. ومن ذلك التفاوت والاختلاف، يذهب البعض إلى القول بأن فكرة الجمال متغيرة باختلاف الفترة الزمنية واختلاف الثقافات، وبأنها أمور مختلفة لبشر مختلفين، بمعنى أن من البشر من يرى الجمال في أشياء لا يرى آخرون الجمال فيها. فهناك من يرى الجمال في الأشياء الفريدة من نوعها، والمختلفة عما سواها من أغلبية الأمور. مثال ذلك: هناك من يميل إلى الزوجة ذات الشعر القصير، ويرى أنها تلفت انتباهه وتجذبه، باعتبارها مختلفة عما سواها من النساء، وفيما هي مختلفة عما هو تقليدي في معنى الأنوثة والجمال بنظره. بينما هناك من يميل إلى الزوجة ذات الشعر الطويل، باعتباره أكثر تعبيرا عن الأنوثة في المرأة. هناك من يميل إلى الجمال الطبيعي -في المرأة مثلا-دون الجمال المصطنع، ناظرا إلى أن الجمال المصطنع يكون عامل إخفاء للجمال الفعلي الذي تحته. وهناك من يميل إلى المرأة النحيفة، وهناك من يرى الجمال في الجديد دائما، وفي كل ما هو إبداعي، وهناك من يراه في القديم، وفي كل ما هو كلاسيكي، وهناك من يراه في ذا وذاك. هناك من يرى الجمال في التفاني، وهناك من يراه في التضحية من أجل الآخرين، وهناك من يرى أن المظهر الشخصي هو كل شيء، وأنه كل الجمال. وهناك من النساء من يذهبن إلى أن الطول عنصر مؤثر في الجمال حين يصل الأمر إلى الحديث عن الجمال الفيزيائي، معتبرا أن الطول يخدم الشخص -وتحديدا المرأة – في جمالها الخارجي. بل أن أتباع هذا الرأي يذهبون إلى أن الطول يجذب الانتباه ويبرز شكل الجسم الإنساني، وأن الرشاقة والطول يخلقان صورة لأطراف ممشوقة، مما يضيف إلى سلوك المرأة ومظهرها رقة وأناقة. ويذهب أصحاب هذا الرأي كذلك إلى أن جسم المرأة لكي يكون جميلا ينبغي أن يكون مثيرا ومقوسا وذا خصر صغير، وورك كبير، معتبرا أن الجسم الذي هو من هذا النوع هو أكثر أنوثة. وهناك من يرى الجمال في الحفاظ على جسم متوازن بعيد عن السمنة ويميل إلى الرشاقة. هناك من يرى أن الظرافة والعقلية أو العقلانية والشخصية هي العوامل التي تقرر حالة الجذب والجمال في الإنسان بصورة عامة، وفي المرأة بصورة خاصة. وهناك من يرى الجمال في الانفتاح على أنماط الحياة وأساليبها في بلدان العالم الأخرى، ومنهم من يراه في الانفتاح على البلدان الغربية تحديدا، تصورا منه بأن الغرب هو مثال التقدم في كل شيء. وهناك من يرى الجمال في التعليم والعقلية المتفتحة والمنفتحة. هناك من يرى الجمال في المرح والدعابة والفكاهة ورطوبة الطبع، والظرف وخفة الدم كما يدعوها البعض، وهناك من يراه في الجمال الداخلي للنفس، في جمال معنوياتها وملكاتها الداخلية، بل هناك من قصره على الجمال في تلك الملكات دون غيرها من مظاهر الجمال الخارجي، كما هو حال أتباع المبدأ النفسي. وهناك من يراه في قوة الشخصية الإنسانية التي تلعب دورا مؤثرا في المظهر الخارجي.ويذهب البعض إلى أن الجمال الداخلي يتوجه إلى مدى رغبة الإنسان في تقديم العطاءات والمساعدات من أجل الآخرين، وقابليته للاستماع والبعد عن الروح الأنانية. وهناك من يرى الجمال الإنساني على أنه تركيب من المظهر الفيزيائي الطبيعي والشخصية، ويذهب إلى أن الناس تنجذب إلى المرء من خلال نظراته ومظهره الفيزيائي أو الطبيعي، معطين للشخصية دورا مؤثرا. ويؤكد أصحاب هذا الرأي بأن للشخصية تأثيرا كبيرا في جمال صور الناس، وفيما إذا كانت هذه الشخصية تعزز تلك الصورة أو تفقدها بريقها.
وهكذا نجد أن البشر شرق وغرب في تعريف الجمال والنظر إليه ووتذوقه والتعامل معه، خصوصا وأن الجمال باب واسع لا ينحصر في جانب معين، وسعته سعة هذه الحياة. غير أننا في أحيان تختلط علينا الأمور في التعاطي مع الجمال وتشخيصه في صورته العامة والحكم عليه، حيث قد يصل بنا الأمر إلى أن نتصور القبح جمالا، أو أن نبرر القبح بأنه جمال، هذا من جهة. ومن جهة أخرى أن الغرب المادي -فيما يتصل بالمرأة وجمالها بصورة خاصة- أوغل في توجيه وتوظيف قسم كبير من هذا الجمال وتسخيره في أغراض لا يمكن وصفها إلا بأنها بعيدة كل البعد عن الأخلاق، وحول المرأة -ومن خلال ما تحب وترغب هي والرجل- إلى مجرد أداة إلهائية أو دمية شهوانية ووسيلة إثارة تجارية لخدمة ذلك الغرض، مما أوجد بحق مفهوما انحرافيا خطيرا لقيمة الجمال عموما، وجمال المرأة تحديدا، أصبح رائجا -وبنسب متفاوتة-حتى في خارج المجتمعات الغربية. وساعد على تراكم هذا المفهوم الخاطئ للجمال تاريخ طويل من المسخ والتوجيه المكثف ثقافيا وإعلاميا وتطبيقيا، ويساعد على تفاقم انتشار ذلك المفهوم المشوه -في زمننا هذا- قوة تجارية ضخمة تعتبر الإبداع -أيا كان شكله، والجمال النسوي بصورة خاصة، واسطة للاتجار وتحصيل الأرباح، ترافقها قوة إعلامية هائلة ومكثفة، قوامها تنافس تجاري رأسمالي شديد، تعززها اليوم القنوات الفضائية، وشبكات الاتصال والنشر الإلكتروني، وتكنولوجيا الاتصالات.
لكن ما ينبغي الإشارة إليه والتأكيد عليه هو أنه مهما اختلفت وتباينت الآراء والنظرات حول فكرة الجمال وتطبيقاتها، فهي في -غالبيتها -تتجه إلى بعدين في الكائن الإنساني، وهما بعد المادة وبعد الروح، بعد الشكل والمعنى، بعد المظهر والجوهر. وتذهب النظرة الفطرية المستمدة من مبدأ توافق وانسجام وتناغم المادة والروح إلى تكاملية ذلكما البعدين. يضاف إلى ذلك أن البعد المعنوي في الجمال يلعب دور الضبط والحماية والتقويم في تكاملية هذين البعدين معا، إذ بدونه يسير الجمال في خط منحدر، وينقلب قبحا وإن كان في صورة جمال.
ولا ترديد في أن النظرات في معنى الجمال تفاوتت بين الإفراط في البعد المادي للجمال واعتباره هو الجمال الكلي (وترتب على ذلك تفريط في البعد المعنوي بطبيعة الحال)، وبين الإفراط في الجمال المعنوي واعتباره هو الجمال الكلي، (وترتب على ذلك تفريط في البعد المادي بطبيعة الحال، والنظر إلى أن المظهر ما هو إلا شكل زائل لا داعي للالتفات إليه أو الاهتمام به، بل ينبغي الإضرار به على رأي الإفراطيين من أتباع هذا المبدأ)، وبين التوازن بين البعد المادي والبعد المعنوي في تحديد قيمة الجمال ومعناه في مجالاته وتطبيقاته في الحياة.
وما ينبغي التأكيد عليه هنا هو ضرورة تكاملية الجمال المادي مع الجمال المعنوي، وتسييج-أو تزيين- الأول بالثاني. وأبسط وأوضح مثال على هذا أنه كما على الإنسان أن يظهر بالمظهر الجميل اللائق أمام الآخرين، من حيث النظافة والهندام والملبس والأناقة، عليه كذلك أن يظهر بالمظهر الأخلاقي الذي يحترم القيم والمثل والحدود والقوانين أمامهم، فيعطي ما عليه من حقوق ويلتزم بما عليه من واجبات، ويعامل الناس بصورة عادلة وطيبة، فلا يظلم أحدا، ولا يعتدي على أحد، ويحب للآخرين ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لها. ومن هنا فالإنسان -رجلا كان أو امرأة- هو بحاجة إلى إيجاد حالة من التوازن في النظر إلى الجمال، تأخذ في الاعتبار البعدين معا. إن فصل البعد المعنوي عن الجمال أوسلبه منه يعني توجيه لطمة قوية لما ينبغي أن يكون عليه مضمون الجمال في واقع الحياة الإنسانية، كما أن الإفراط أو التفريط في أحد الجانبين على حساب الآخر يعني إيجاد مثل تلك اللطمة أيضا، والأخذ بالجمال إلى غير المنهج الذي وضعه له خالق الخلق، وفاطر البشر، وهذا يعني الانحراف بالجمال إلى غير الطريق الذي رسمت له.
وكمثال تطبيقي على جمال ظاهر الإنسان وباطنه يمكن لنا هنا أن نتساءل: ما قيمة الإنسان الذي يمتلك صفة الجمال المادي أو المظهري لكنه يفتقر إلى جمال الروح والأخلاق؟! ما قيمة المرأة -كحالة خاصة ومستهدفة- إذا كانت على مستوى من الجمال الجسدي، لكنها تفتقر إلى جمال الروح، جمال النفس والملكات الداخلية الفاضلة؟! والأمر الذي ينبغي أن يعيه كل إنسان هو أن المرء لا يعيش مع أجساد ومظاهر فقط، بل يعيش مع عقول وضمائر وعواطف وأحاسيس، وأن المرأة في ظل حياتها مع زوجها هي ليست شكلا ومظهرا فقط، بل هي -قبل أن تكون كذلك- روح ومعنى. وهكذا الحال بالنسبة للرجل.
وكم من أناس -رجالا ونساء، بنين وبنات- مٌنحوا الجمال الجسدي، لكنهم لم يقدروا هذه النعمة، ودعاهم غرورهم أوعجبهم أوالإفراط في حب ذواتهم أو الاستجابة إلى بيئات وتوجيهات ومناهج تربوية غير سليمة، دعاهم إلى الاستخدام والتوظيف السيئ لنعمة الجمال، ووضعها في غير موضعها، فغدت أنفسهم تعيش حالة من الجدب الروحي والأخلاقي، وأمسى جمالهم المظهري لا يغنيهم شيئا، وإن كانوا يعولون عليه في كل شيء، وتحول إلى عامل تنفير وقبض بدلا أن يكون عامل جذب وبسط. وفي الطرف المقابل، هنالك أناس لم يحظوا بجمال خارجي -إذا جاز التعبير- أو أنهم حظوا بمستوى عادي منه، لكنهم عمروا أنفسهم بجمال المعنى والروح والأخلاق، فكبرت شخصياتهم في الاجتماع وغدت كالمصابيح التي تأسر مجاميع الفراشات.
وعليه، مهما سلمنا بفكرة اختلاف الأذواق في مسألة الجمال وتذوقه، فالنظرة إلى الجمال لا غنى لها عن التوازن، والجمال لا غنى له عن البعد المعنوي باعتباره بعدا ضابطا. ومن هنا يمكن القول بأن ميول الجمال مهما اختلفت وتنوعت وتعددت هي حسنة طالما أنها مزينة ومسيجة بالحسن والفضيلة والجمال المعنوي، وهو البعد القيمي والأخلاقي. ولذا، ليس من الصحيح أن يتخذ التغير الزمني -والحداثة تحديدا- مبررا للقفز على المقاييس والضوابط الأخلاقية التي ينبغي أن يتحلى بها الجمال والميل إليه، والنظرة إليه ابتداء. فما كل جديد ينطبق عليه معنى الجمال، ورب جديد هو في حقيقته مخالف لأصول ومقاييس الجمال المعنوية، وبالتالي ربما يصدق عليه أنه قبح وإن أُلبس ثوب الجمال. إن تصنيف كل جديد أو متميز على أنه جمال حقيقي يعني -من ضمن ما يعني- الخضوع والاستسلام لكل ما يطرح من مظاهر الجمال الخادع واللهث وراءها في السوق التجاري، تلك المظاهر التي لو أنعمنا النظر فيها لاكتشفنا أن كثيرا منها لا ينسجم والأصول الأخلاقية، وقواعد الذوق الملتزم.
وهنا مفارقة ينبغي الالتفات إليها، فلا ينبغي أن يفهم من هذا أن كل جمال يطرحه الآخر هو جمال مرفوض، إذ هناك من صنوف جماله ما هو جيد ويمكننا الاستفادة منه واستثماره طالما كان مزينا ومسيجا بجمال المعنى والقيمة. ولكن المعني أن نستعمل عقولنا جيدا، فنختار ما هو جمال في المادة وفي المعنى مع، وهو أمر ممكن، وأن لا نفقد الضوابط الأخلاقية في تذوق الجمال واختياره أوالحكم عليه، لكي لا نسقط في وحل “الجمال” الزائف الذي لا يرعى لفضيلة إلاًّ ولا ذمة. هناك اختلافات في الجمال وتذوقه أمرها هين، ويمكن تصنيفها بـأنها فرعية أو جزئية، كأن نتناول طعامنا على مائدة أو نأكل على الأرض كمثال. بينما في الطرف المقابل هناك اختلافات أخرى يترتب عليها إضرار بمبادئ أخلاقية وشرعية أو مناقضة له، كارتداء الفستان الذي يظهر المرأة وكأنها شبه عارية بينما تدعو تلك المبادئ إلى حشمة المرأة وسترها، وهنا تكمن المشكلة، الأمر الذي يؤكد ضرورة استعمالنا لعقولنا، وتسييج الجمال والميول والرغبات الجمالية بالحدود الحافظة، وفي طليعتها القيم الروحية والأخلاقية.
بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد