كيف نبني طفلاً أخلاقيًّا؟ 4من4

تصور أنك بصورة إرادية او لاإرادية وضعت أو رميت نواة لشجرة النخيل (النخلة) في تربة خالية، وبعدها أعطيتها قليلا من الماء، أو أن بعض المطر هطل عليها اتفاقا، أو كانت قريبة من مستنقع أو مجرى مائي، فما الذي سيحدث بعد مدة؟ ستجد أن النواة تفاعلت مع التربة والمحيط والمناخ المحيطين بها، وانفتقت وخرج منها برعم يشق التربة ليصبح فيما يعرف بالفسيلة الصغيرة. وما حدث أن التربة قبلت النواة بما هي عليها، وساعدتها على النمو بمساعدة عوامل أخرى مثل الضوء، والماء، والهواء.

وهكذا الحال بالنسبة للطفل، فهو -مع الأخذ بعين الاعتبار الاستعدادات الوراثية التي أخذها عن أبيه وأمه وأجداده- مثل الأرض الخالية التي تقبل ما يُلقى فيها. ويؤكد هذا ما جاء في وصية لسيدنا علي بن أبي طالب لابنه سيدنا الحسن بن علي إذ قال: “إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته، فبادرتك الأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لُبُّك “. وإذا عرفنا أن قلب الطفل مثل الأرض الخالية، فالمطلوب أن نحسن الغرس في هذه الأرض، وأن لا نتركها وشأنها وعلى عواهنها، بل لابد أن نمد لها يد الرعاية والاهتمام والتهذيب والتقويم منذ المراحل الأولى من العمر لكي تكون وسيلة خيرة لثمار خيرة.

وبعبارة أخرى: أن لا نترك الطفل للنمو العشوائي غير المدروس، أو أن نحوله إلى وعاء نملؤه بما يعود عليه وعلى الاجتماع بالخلل والفساد والانحراف والآثار المجتمعية المنفية. لابد أن نكون على علم ووعي بنوعية ما نلقيه في قلب الطفل ونغرسه فيه، إذ أن هذا الإلقاء والغرس سيلعب دورا في تحديد شخصيته مستقبلا، وموقعه من المجتمع، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا. ولذا جاز الجزم بكل ثقة أن هناك من الآباء والأمهات من يجنون بحق أطفالهم حينما يلقون في قلوبهم ما يلحق بهم وبمجتمعهم الخلل والعطب والدمار مستقبلا، إذ التربية مسؤولية قبل أن تكون وظيفة فطرية.

ومن الحقائق الثابتة أن قلب الطفل يتسم بحالة من الليونة أو المرونة الفطرية، إضافة إلى خلوه مما يشغله ويشوشه من مصادر ومسببات التشويش في الحياة، وهذا ما يفسر استجابة الطفل في مراحل نموه الأولى للتشكيل عبر التربية بصورة ملحوظة، وقدرته على استيعاب المسائل التعليمية أفضل مما هي في الشخص الكبير. على سبيل المثال: إننا لو أدخلنا طفلا لا يفقه من اللغة الانجليزية شيئا في فصل من مدرسة ذات منهج يقوم على اللغة الانجليزية، فإننا سنجد أن الطفل سيكون بعد مدة قادرا على التخاطب باللغة الانجليزية، ومجيدا للهجة (Accent) أفضل مما يجيد المرء الكبير. وفي هذا ينقل أحد الأصدقاء قصته فيقول : قدر لي أن أسافر إلى بريطانيا لأعيش فيها مدة ثلاث سنوات، فكان علي أن أسجل ولديّ في إحدى المدارس البريطانية، فقمت بتسجيلهما، وكنت أتصور الصعوبة والمعاناة التي سيواجهانها في ما يتصل باكتساب اللغة الانجليزية، وهي لغة التخاطب والتدريس. يقول الصديق: وخلاف ما كنت أتصور، لم تمض سوى أشهر قليلة حتى وجدتهما يتحدثان الانجليزية بطلاقة، وبلهجة إنجليزية أعجز أنا عن إجادتها.

وفيما يتعلق بالتربية، فالثابت أن المرونة أو الطراوة التي يتمتع بها قلب الطفل من ناحية، وصفاء ذلك القلب وخلوه من المشاغل من ناحية أخرى يشكلان البيئة التأسيسية الخصبة لتربية الطفل وبنائه أخلاقيا. وليس غريبا أن نجد بعض الآباء والأمهات الذين يهملون أو يقصرون في البناء الأخلاقي لأطفالهم في مراحل نموهم الأولى، يلاقون صعوبة في بنائهم أخلاقيا حينما يصبحون كبارا، وتنشغل قلوبهم ونفوسهم بمشاغل المحيط الاجتماعي.

إن مسؤولية الآباء والأمهات لا تنحصر في إشباع حاجات الأطفال من حيث المأكل، والملبس، والنوم، والمسكن، والترفيه، واللعب فقط، وإنما يتعدى الأمر ذلك -وبصورة أساسية- إلى أنهم مسؤولون عن الإلقاء الذي يلقونه في نفوس أطفالهم من إرشادات وتوجيهات، وأوامر، ومعارف، ومعلومات، وما شابه ذلك. وحينما تكون تلك التوجيهات والإرشادات والمعارف والمعلومات في المنحى الشرير والبعيد عن حدود الأخلاق والفضائل، هنالك تكون الكارثة، ويمسي الطفل ضحية التربية التي ألقيت فيه من قبل والديه أو تلقاها منهما، ومن هنا يعد البناء الأخلاقي للطفل من أولويات وظائف التربية السليمة.

وعليه، لابد من استشعار الدور الحساس والوظيفة الخطيرة للتربية : لابد لكل أب وأم ومربٍّ أن يعي دوره التربوي الذي يقوم به، وأن يضع نصب عينيه أنه يزرع اليوم للمستقبل، ولابد أن يكون هذا الزرع صالحا لكي يكون المجتمع بخير وعافية. إن كثيرا من الانحرافات التي تحصل في المجتمعات الإنسانية مردها إلى التربية، وهو يعني أن مردها للآباء والأمهات والمربين الذي أنتجوا هذه التشكيلة المنحرفة أو الشريرة من البشر. إن قلب الطفل حينما يولد هو أشبه بالصفحة البيضاء، والمسؤولية تلقى على الوالدين في الدرجة الأولى لتزيين تلك الصفحة، وجعلها تتحلى بملكات الجمال الخلقي والفضيلة.

 إن من المفاخر الحقيقية للإنسان في هذه الحياة أن ينتج ويقدم لمجتمعه وعالمه بشرا أسوياء أخلاقيين، يرفعون الرؤوس ويكونون بحق لبنات صالحة لمجتمعاتهم : بشرا يكونون خير خلف لخير سلف،  بل ينبغي أن يكون هذا ميدانا للتنافس، “وفيه فليتنافس المتنافسون”، وليس المقصود من التنافس هنا من الناحية الكمية بل من الناحية النوعية التي هي من صلب احتياجات المجتمعات التي تنشد الخير والفضيلة والحضارة.

ومن الأمور الأولية التي ينبغي أن يدركها الآباء والأمهات في عملية البناء الأخلاقي لأطفالهم، أن الطفل يولد وفيه استعدادات وراثية معينة ورثها عن أبيه وأمه وقبلهما من أجداده، لكن علماء البيولوجيا والأنثروبولجيا يؤكدون على دور التربية في إصلاح الصفات، وتعديل الصفات الوراثية التي تدعى الصفات الكامنة. يقول محمد تقي الفلسفي في كتابه (الطفل بين الوراثة والتربية): “تبلغ العادات التربوية والتمارين الإصلاحية المتواصلة درجة من القوة في التأثير بحيث تتغلب على الصفات الوراثية، وتحدث وضعا جديدا في الأفراد”. ويقول ألكسيس كارل صاحب كتاب (الإنسان ذلك المجهول): “ويميل نمو الجسم في اتجاهات مختلفة استجابة للوسط، فتصبح صفاته الفطرية حقيقة أو تظل خاملة. فمن المحقق أن ميولا وراثية معينة تتعدل كبيرا بظروف تكويننا”. وهكذا فإن التربية السليمة القائمة على أساس حب الخير الميل إلى الفضيلة وتعويد الطفل وتطبيعه على القيم والفضائل هي الأساس لبناء طفل أخلاقي.

ومن المؤسف في حياتنا العصرية أن البشرية انحرفت عن مبدأ التوازن بين المادة والروح إلى جانب المادة، فانشغلت بالماديات واللذائذ، وتربى الأطفال على ذلك نتيجة، وكان ذلك على حساب الروحيات والمعنويات والأخلاقيات. ولذا ليس من دواعي الغرابة أن تصل البشرية إلى مأزق الجدب الروحي، ونشوء أزمة القيم التي تستشري في عالمنا اليوم. ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك الفقر الروحي والمعنوي والقيمي علىالأطفال، هذه البراعم البريئة، باعتبارهم ليسوا مفصولين عن عالمهم وعن محيطهم الاجتماعي، يتأثرون بهما كما يتأثر الإبن بأبيه وأمه. وبذلك يمكن القول أن الطفولة في عالمنا هذا وفي عصرنا هذا دفعت وتدفع الثمن غاليا، وأمست ضحية ذلك الانحراف البشري عن مبدأ التوازن بين المادة والروح. ومن هنا لابد من الاهتمام بتربية الإيمان الفطري، وتعليم الواجبات الروحية، وغرس السجايا الخلقية في نفوس الأطفال على طريق بناء إنسان أخلاقي يؤمن بالقيم ويحترمها.

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى