كيف نبني طفلاً أخلاقيًّا؟ 1من4

في البدء تأتي الصحة، والوالد (أبًا كان أو أمًّا) يهمه أولا وقبل كل شيء صحة طفله، ولذا تجده يسأل الطبيب بلهجة ملؤها الحنان والحماية والرغبة في الاطمئنان: هل طفلي على ما يرام يا دكتور؟ ثم يأتي بعد ذلك يأتي الجزء الآخر الشاق، فيرتسم هذا السؤال الشاغل الهام في ذهن وقلب الوالد : هل سينتهي طفلي ليكون إنسانا صالحا؟

لا جدال في أن سنوات الأولى القليلة من عمر الطفل تشكل الأساس الذي تنبني عليه شخصيته حينما يكبر و يصبح رجلا في المستقبل، وفي مستوى تحمل الأعباء والمسؤوليات. وهي بالتالي تشكل المفتاح لشخصيته فيما إذا كنت ستنتهي إلى شخص حبيب مشرّف يرفع رأسك، أو إلى شخص جانح، سيئ السيرة، منتهك للقانون ولمبادئ السلوك المستقيمة. وانصباب جهود كثير من العلماء والباحثين والخبراء والكتاب على معالجة موضوعات الطفولة يعكس ويؤكد تلك الخطورة والأهمية البالغة لتلك المرحلة والدور التأسيسي لها في صياغة شخصية الإنسان وتشكيلها.

وتأسيسا على ذلك، فتنشئة الطفل على مبادئ الصلاح والخير والفضيلة ومبادئ السيرة المستقيمة -وبطريقة سليمة- في صغره ومنذ نعومة أظفاره تؤهله ليكون إنسانا صالحا ومؤثرا في المستقبل. ومن الواضح أن الآباء والأمهات لا يتساوون من حيث الممارسة والالتزام العملي بهذا المبدأ والشعور، إذ هناك الجاهل، واللاأبالي، وضعيف الإحساس والشعور بخطورة هذه المرحلة من عمر الطفل، وعديم الغيرة فيما يتعلق بمسألة احتمال انحراف الطفل مستقبلا، فإنه ينبغي أن يكون هذا الشعور نفسه ديدن ومنهاج كل أب وأم ومؤسسة تربوية على طريق بناء طفل سليم وسوي وفاضل يكون نواة لإنسان ومجتمع فاضلين.

وتقديرا لخطورة السنوات الأولى من عمر الطفل، يذهب خبراء الطفولة إلى القول بأن ما يؤدي إلى الاعتناق والتقمص والكرم والإحسان ينجم مبدئيا من انهماكات الطفل وانشغالاته واستغراقاته الأولى. فالأطفال في مراحل نموهم الأولى غير قادرين على تمييز أو فصل أنفسهم عما سواهم من بقية هذا العالم. وهذا ربما يفسر لجوء الأطفال حديثي الولادة إلى البكاء حينما يصل إلى أسماعهم صوت بكاء أطفال آخرين. إنهم ليسوا متأكدين ممن هو مصدر الإيذاء والإيلام. وهذا البكاء الانعكاسي يعني -فيما يعنيه- أن الأطفال الرضّع لهم القدرة على الاستجابة للإيذاء والإزعاج والمضايقة الصادرة من الآخرين، وهو شكل فطري من أشكال من أشكال التقمص. ويفترض قسم من الباحثين أن بعض الأخلاقيات متشابكة وذات اتصال وثيق بميلاد الطفل.

وقد لاحظ العلماء طويلا أن الآباء (رجالا ونساء) العاطفيين أو ذوي المشاعر المرهفة الرقيقة يميلون إلى إنتاج أطفال عاطفيين ذوي مشاعر رقيقة مثلهم، بعبارة أخرى ينجبون أطفالا من مثلهم وبصفات وراثية موجودة فيهم. وقد بينت تجربة على أطفال دارجين (الدارجون هم الذين يمشون بخطى قصيرة قلقة) أن التوائم المتماثلين أرجح من التوائم الأخويين (الوديين الذين جاءت خلقتهم من بويضتين وليس من انقسام بويضة واحدة) في إظهار ميول متماثلة لمساعدة الناس. ويعزو أولئك العلماء ذلك إلى أن التوائم المتماثلين يشتركون في كثير من الجينات، وهذا ما دعاهم إلى الذهاب إلى القول بأن الفطرة هي ليست مجرد فطرة، بل هي أكثر من ذلك. وتجدر الإشارة هنا إلى أن العلماء لا يعتقدون بأن هناك جينات خيّرة أو طيبة وأخرى شريرة أو خبيثة، ولكنهم يميلون إلى أن الجينات تؤثر على أشكال كيمياء المخ، والتي بدورها تحكم بعض السلوك والتصرفات.

مع هذا فليس من السليم تعليق كل شيء على شمّاعة الوراثة، لأن ذلك التعليق من شأنه أن يؤكد ثقافة الاستسلام والخضوع وإلغاء دور الفعل الإنساني والإرادة الإنسانية، وبالتالي دور التربية، وهو منحى في منتهى الخطورة. إن دور التربية دور تأسيسي عظيم أكبر من أن تصفه كلمات، وهو أمر لا يختلف فيه عاقلان، وإذا كانت الجينات الوراثية تصبغ الإنسان منذ ولادته بصفات معينة قد لا يستطيع الانفكاك عنها من مثل حالة الغضب، أو الحساسية أو الشعور المرهف سريع التأثر، أو الخوف، وما إلى ذلك، فإن تربية الطفل على مبادئ الصلاح والفضيلة وصياغة شخصيته بناء عليها أهم وأولى من التعويل في البناء الأخلاقي للطفل على الصفات التي يمكن أن تأتيه إليه من الوراثة والجينات الوراثية والتي قد لا تتناقض والنشوء على الفضيلة. ولا جدال في أن أي مولود يولد هو ليس مقطوعا من شجرة، بل هو امتداد لوالديه، وبالتالي فهو يحمل استعدادات وربما صفات وراثية تحملها الجينات، ولكن التربية يمكن أن تفعل في الطفل ما يفعله السحر إذا جاز التعبير، ولذا ينبغي أن تحمل على محمل الجدية والاعتبار من قبل كل أب وأم ومربٍّ.

ويقول الخبراء والباحثون أن الجينات مازالت جزء من الصورة، وأن الأمر متروك للوالدين لكي يُروا أولادهم الروابط الأخلاقية. ففي حين أن الأطفال حديثي الولادة ليسوا على استعداد لهضم المحاضرات الطويلة، فهم بإمكانهم أن يدركوا قواعد كثيرة قبل أن يصدقوها ويعوها هم أو آباؤهم، وهنا يتبين الدور الرئيس والخطير في ذات الوقت للتربية. وفي هذا يقرر الدكتور روبرت كولز وهو طبيب نفساني من جامعة هارفارد ومؤلف كتاب “الذكاء الأخلاقي للأطفال” “The Moral Intelligence of Children” أن هناك تضمينات أو معاني أخلاقية في كل قرار -تقريبا – يتخذه الوالد (أبا كان أو أما) قائلا: “إنها تلك الإلماعات أو التلميحات التي تتضمنها الدقائق التي تتلو بعضها في كل يوم”، وهي إشارة إلى أن سلوك وتصرفات الآباء هي أقرب إلى الانعكاس في شخصيات الأطفال، باعتبار أن الوالدين هم أقرب صورة للطفل يمكن له أن يقلدهما ويكتسب منهما.

إن من أول المبادئ التي ينبغي أن يتعلمها الأطفال من والديهم ومربيهم مسألة الحدود “Constraints”، الحدود التي تعرفهم بالأسقف التي يجب أن يراعوها، بالتصرفات التي يمكن لهم أن يأتوها وبالأخرى التي ينبغي لهم أن لا يأتوها في أسلوب تربوي يتناسب ومداركهم ومستواهم العقلي. إن الهروع إلى مهد الرضيع في كل وقت يبكي الطفل فيه قد يعلمه على مسألة الإرضاء اللحظي. إنها على أية حال مسألة لا تعطي فائدة لأولئك الآباء الذين يهرعون بسرعة إلى مهود أطفالهم، بينما قد تجعلهم يفقدون توازنهم وأطفالهم ما زالوا رضعا. إن الأطفال منذ نعومة أظفارهم ينبغي تعليمهم معنى كلمة “لا”، وهي أحد التعبيرات عن احترام الحدود وتحاشي تجاوزها، إنها أحد الوسائل والتعبيرات عن اجتناب ما لا ينبغي فعله والتوجيه إلى ما ينبغي فعله، وهو أمر أولي ورئيس في بناء الطفل أخلاقيا. “إن الأطفال الذين لا يتعلمون معنى كلمة “لا” سيقعون تحت “رحمة” الدوافع والرغبات التي لا يعرفون كيف يتحكمون فيها، وفي المحصلة : فاسدون ومستبدون صغار. وبتعريفهم بمعنى كلمة “لا” سيتم وضعهم على أول سكة التهذيب وضبط للسلوك.

وتدليلا وتأكيدا على دور التربية في صياغة وتشكيل شخصية الإنسان، جاء في النصوص الشريفة بما مضمونه أن كل إنسان يولد على الفطرة، وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. وإذا كان النص الشريف قد بين مسألة دور التربية في خلق التوجه الديني في الطفل تبعا لتوجه أبيه وأمه، فهو يذكر لنا مثالا على دور تأثير التربية في تشكيل شخصية الطفل، موجها أنظارنا إلى أن تأثير التربية يمتد إلى ما هو أبعد وأكثر من تشكيل الميل الديني وتوجيهه إلى واحدة من الديانات المذكورة أو غيرها.

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى