عن النقد واللوم والعتاب في الحياة الزوجية

في حياتنا الزوجية، هل ننتقد ونلوم ونعاتب إذا ما دعت الحاجة لذلك، أم نتجاهل ونغض أبصارنا عن الأخطاء والتقصيرات مهما كبرت؟

هل صحيح أن النقد واللوم والعتاب غير محمود بصورة مطلقة؟ وهل يمكن أن يكون حالة إيجابية وتربوية وحضارية؟ وهل كل خطأ أو تقصير –وإن صغر- يستحق منا النقد واللوم والعتاب؟ وهل صحيح أن النقد واللوم والعتاب –في صور معينة- قد يهدم أكثر مما يبني؟ وما هي الصورة الأفضل لتقديم النقد واللوم والعتاب؟

النقد واللوم والعتاب والتوبيخ مفاهيم ذات معاني متقاربة أساسها في الصورة العامة –أو المتعارف عليها- حالة عدم رضا من طرف عن طرف آخر مرتبطة بتصرف معين. وبالمعنى الأخلاقي هي تعبير عن مسؤولية أخلاقية تتوجه حالة عدم الرضا فيها إلى الميل والرغبة في التصحيح والتهذيب والتقويم والتكامل باتجاه الحق والخير والفضيلة. ويختلف الناس ويتفاوتون حول تلك المفاهيم في مجال معاملة الناس بصورة عامة، وفي الحياة الزوجية بصورة خاصة. هناك نظرة تذهب إلى أن الإنسان في تعامله مع الناس وفي تعامله مع زوجه يجب أن يبتعد عن كل ما فيه نقد ولوم وعتاب للآخرين، سيرا على مقولة “لا تلم أحدا عساك ألا تلام”، وهناك في الطرف المقابل نظرة تذهب إلى تقديم النقد واللوم والعتاب بصورة مباشرة ودون حدود وقيود ودون حساب لعواقب النقد وطريقة تقديمه.

وبنظرة موضوعية متأملة، يجد المرء أن كلا من النظرتين تنطوي على تطرف وإفراط. ففيما يتعلق بالنظرة الأولى، لا يعني إلغاء النقد واللوم والعتاب في الحياة العامة وفي الحياة الزوجية سوى لاأبالية ولامسؤولية وعدم اكتراث بأي أخطاء أو انحرافات ومساوئ قد تحدث هنا وهناك، وتعطيل لمبدأ التواصي بالحق والصبر، هذا المبدأ العظيم الذي لا غنى للإنسان عن ممارسته في حياته العامة مع الناس ومع زوجه وأولاده في الحياة الأسرية أو العائلية. صحيح أن الإنسان مطلوب منه أن لا يتدخل في الشؤون الخاصة للآخرين، وأن لايقحم نفسه في كل صغيرة وكبيرة تخصهم، ولكنه في جوانب أخرى مطلوب منه أن يمارس النقد واللوم والعتاب بصورة أخلاقية بهدف التصحيح والتقويم بما يحقق منفعة أو يدفع مضرة.

وعلى صعيد الحياة الزوجية، ثمة أمور وممارسات تتعلق بالأخلاقيات وبمسيرة الأسرة بشكل عام، فإذا ما أغمض الإنسان عينيه عنها فلربما ترتب عليها نتائج وتطورات غير محمودة أو خطيرة. دعنا نضرب لذلك مثالين: امرأة رأت من زوجها أنه يدلل ابنه الصغير بصورة مفرطة ستؤثر سلبا –بلا شك- على شخصيته وسلوكه مستقبلا. وهنا إن اجتنبت تنبيه زوجها (نقده أو لومه أو عتابه) إلى هذا الأمر، فسوف لا يعني ذلك إلا تسليمها وقبولها العملي بالطريقة الخاطئة التي يتعامل زوجها مع ابنه، وبالتالي التسليم بالنتيجة غير المحمودة التي سيؤول إليها طفلها في المستقبل. ورجل رأى من امرأته أنها تسلك الإسراف والتبذير في الإمكانات ولا تشعر بقيمتها، ولا تراعي الاقتصاد في تسيير الحياة الأسرية، وهنا إن تجاهل زوجها نقدها ولومها وعتابها، استمرت في إسرافها وتبذيرها، وفي تضييع الإمكانات بما يترتب على ذلك من تأثيرات اقتصادية منفية على العائلة، وخصوصا حينما تكون الإمكانات المالية محدودة.

وهناك من يبرر نظرته في اجتناب النقد واللوم والعتاب إلى أن الإنسان يميل إلى الدفاع عن نفسه، وبالتالي فهو لا يحب أن يلام أو ينتقد أو يعاتب، وبالتالي ينبغي تجنب النقد واللوم والعتاب مطلقا. صحيح أن الإنسان ينبغي أن ينشغل بنقائص وعيوب نفسه عن الآخرين، ولكن هذا لا يعني أن يغمض الإنسان عينيه عن الأخطاء والتقصيرات المرتبطة بهم والصادرة منهم. والمقصود هنا ليست الأخطاء والتقصيرات البسيطة أو الجزئية، وإنما تلك التي إن تركت وتم تجاهلها ترتب عليها نتائج غير محمودة وغير عادية. وصحيح أيضا ما يقال أن اللوم عقيم لأنه يضع المرء في موقف الدفاع عن نفسه، ويحفز إلى تبرير موقفه، والذود عن كبريائه وعزته، لكنه يمكن بأسلوب ما جعله طريقة إيجابية للتواصل مع الآخرين والتواصي معهم على طريق التوجيه إلى ما ينبغي فعله والتصحيح والتقويم والتكامل.

وفيما يتعلق بالنظرة الأخرى التي لا تراعي حدود النقد واللوم والعتاب والطريقة التي يقدم بها، فيمكن القول بصورة عامة أن النقد واللوم والعتاب إذا لم تكن مؤطرة بحدود فقد تفقد قيمتها، وأكثر من ذلك قد تعود بمردودات منفية على أحد الطرفين أو كليهما. أول تلك الحدود: أن يكون النقد أو اللوم أو العتاب صادرا عن إخلاص ونية صادقة. فإذا لام الزوج زوجته أو لامت الزوجة زوجها، فينبغي أن يكون وراء ذلك قيمة أو مصلحة يراد الوصول إليها. ومن هنا لا قيمة للنقد واللوم والعتاب إذا كان من أجل مجرد النقد واللوم والعتاب. وثاني تلك الحدود: احترام الكرامة الإنسانية للطرف المنتَقَد أو المُلام أو المعاتَب، بأن لا يكون النقد أو اللوم والعتاب بهدف الحط من تلك الكرامة أو تحقيرها أو النيل منها، فالنقد بهدف التحقير مخالف لحفظ كرامة الإنسان، وهو غير جائز، وله أثر منفي كبير. وثالث تلك الحدود: أن يقدم النقد أو اللوم أو العتاب بأسلوب فني يخلق في الطرف الآخر رغبة إيجابية في التغيير، ويحفظ له ماء وجهه. وهنا يمكن القول أن كثيرا من المنتَقَدين أو المُلامين أو المعاتَيبن يحسون في قرارة أنفسهم أنهم على تقصير أو خطأ، وأنه يجدر بهم أن يغيروا ما بأنفسهم، أو يعدلوا تصرفاتهم، لكن الأسلوب غير اللطيف أو غير المحبذ في تقديم النقد أو اللوم أو العتاب إليهم قد يجعلهم يراوغون ويماحكون ويجادلون، ويتمسكون بأخطائهم وتقصيراتهم، ويتعصبون لذواتهم. بل أكثر من ذلك أن النقد إذا لم يقدم بأسلوب فني قد يقود إلى خصومة أو قطيعة. يضاف إلى ذلك أن الناس –ومنهم الأزواج والزوجات- يتفاوتون في استقبال النقد واللوم والعتاب، فهناك منهم من يستقبل النقد المباشر بصدر رحب، ومنهم من هو مرهف الإحساس تجاه النقد. وهنا ينبغي مراعاة الطرف المنتَقَد ومشاعره، وخصوصا أصحاب المشاعر المرهفة والحساسة. فالزوج إذا أحس من زوجه أنه مرهف الإحساس والمشاعر، ينبغي أن يفكر عشر مرات في أي أسلوب فني يسلك لنقد زوجه أو تنبيهه في أمر ما بغية تصحيحه أو تقويمه. ومن الأساليب الفنية في تقديم النقد: انتظار الفرصة المناسبة المتعلقة بموضوع النقد، والإشارة إلى الأخطاء من طرف خفي، وتقديم النقد بصورة مرحة لا في صورة سخرية، واستخدام الرسائل. ورابع الحدود أن يبتعد النقد واللوم والعتاب عن التوافه والجزئيات التي لا داعي لها، وربما ساعد النقد فيها على تفخيمها وتكريسها. وللعلم أن كثيرا من المشكلات العائلية يمكن أن تنبثق من توافه وجزئيات، ويمكن أن يكون النقد هو العامل المحرض في ذلك. بل تقرر الإحصائيات أن كثيرا من حالات الطلاق في المجتمعات الغربية تنجم عن أمور تافهة وجزئية، ويكون للنقد دور بارز فيها.

بقلم : رضا علوي السيد أحمد

21/12/2003م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى