الفضيلة والإنسان الفاضل دعامة الاستقرار المجتمعي

ابتداء، لابد من التأكيد على أن النظرة المتشائمة للأمور، وتضخيم الأحداث، وإطلاق التعميمات على الحوادث القليلة ووصفها بأنها ظواهر هي من الأمور غير المقبولة عقلا. مع هذا التأكيد، لا يبدو من قبيل المبالغة القول بأن قيم الصدق والأمانة والوفاء وأداء الحقوق، في عالمنا، هذا أمست أخلاقيات نادرة كندرة الكبريت الأحمر، وذلك لأسباب متنوعة : اقتصادية، وثقافية، وإعلامية، واجتماعية، ومحيطية، وتربوية وغيرها. ومن واجبنا جميعا : أفرادًا ومؤسسات، رسمية وأهلية، أن نعي هذا الأمر ونتداركه، ونقوم بما من شأنه ترسيخ الإيمان والالتزام العملي بالقيم والمثل الفاضلة التي هي عماد الاستقرار والاطمئنان لأي مجتمع من المجتمعات، ومعالجة كل ما من شأنه تسبيب الانحراف والشذوذ عن تلكم القيم والمثل.

ولا أدل على تراجع تلك الأخلاقيات في الواقع من انتشار ظواهر الكذب، والغش، و”التلويص”، والسرقة، وعدم أداء الحقوق وتسديدها، في عالمنا وفي مجتمعنا، وتحصيل المصلحة أيا كانت،  سيرا على مقولة : الغاية تبرر الواسطة. بل أن السارق -كمثال- يسرقك وقد يأتي إليك لا من أجل الاعتذار والندم على الفعل المذموم، وإنما من أجل أن تقوم بإلغاء الدعوى المرفوعة ضده، كي لا تصل إلى المحكمة وإلى السجن والغرامة، وإلى تكوّن سجلّ له غير محمود فيما إذا كان قد دخل خط السرقة والإجرام للمرة الأولى.

وفي هذا السياق ينقل أحد الأصدقاء قصته فيقول : سُرقت سيارتي قبل عام ونصف، فقمت حينها بإبلاغ الشرطة. وبعد بضعة أيام من المعاناة بلا سيارة والبحث عنها، تمكنت الشرطة من ضبط السارق وهو يقودها، واتصلت الشرطة بي لاستلام السيارة، فتوجهت إلى المركز لاستلامها. وبعد مرور ما يقارب العام على الحادثة، فوجئت ذات يوم بشخص بقترب مني في صمت ويسألني فيما إذا كانت سيارة قد سُرقت لي قبل عام. يقول الصديق : فأجبت بالإيجاب، ودخلت مع اللص في حديث مفصل تناول الأسباب والدوافع التي دفعته لسرقة السيارة. لكنني فهمت من كلامه وقسمات وجهه أنه لم يأت من أجل أن يتأسف ويعتذر، وإنما من أجل مصلحة معينة، وهي التوسل لدي بأن أقوم بإلغاء الدعوى.

ويحكي صديق آخر قصته فيقول : جاءني قريب لي يطلب مني مبلغا من المال سلفة، فأعطيته ذلك وأخبرته بأن يعتبر هذا المبلغ بمثابة هدية ولا داعٍ لتسديده. يقول الصديق : وبعد أشهر قليلة جاءني مرة أخرى يطلب مني مبلغا آخر أكبر، وذكر لي بأنه يمر بظروف عائلية صعبة. فقدرت ظروفه وأعطيته المبلغ برغم حاجتي الماسة إليه، وذكرته بأن لا يطيل علي في إرجاعه لحاجتي إليه، فوافقني على ذلك ووعدني بالتسديد المبكر. وانتظرته لكي يسدد المبلغ، وطافت الشهور، وقمت بمتابعته ومطالبته، ووعدني بالتسديد أكثر من مرة، وكان في كل مرة يقول لي كلاما، وفي المحصلة لم يسدد لي شيئا حتى الآن، وإذا ما طالبته وعد بالتسديد، ولكنه يخلف وعده دائما.

ويحكي صديق ثالث قصته مع صاحب مكتبة ‎، فيقول : أعطيت صاحب إحدى المكتبات مجموعة من الكتب لكي يبيعها لي مقابل نسبة خصم من قيمتها تكون له. وبعد شهور حان موعد التحاسب معه حسب الاتفاق، لكنه اعتذر لسبب ما فعذرته. وبعد بضعة شهور اتصلت به للتحاسب، فقدم لي عذرا آخر، وهكذا في المرة الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة وفي كل مرة كان يختلق لي عذرا جديدا. يقول الصديق : وهكذا مازلت في معاناة مع صاحب المكتبة هذا، ولم أستلم منه حقي بعد لحد الآن.

ويحكي صديق رابع قصته فيقول : شرعت في بناء منزل لي، ولأسباب مالية فإن مدة البناء قد طالت، لكني قمت بتركيب الأبواب والنوافذ لجعله محصنا. وبين الفترة والأخرى أقوم بالتوجه إلى المنزل لمواصلة بعض أعمال التجهيز فيه، وفي كل مرة أفاجأ بأن ثمة أغراض قد سرقت منه، حيث يعمد اللصوص إلى فك الأغطية الخشبية الموضوعة على فتحات المكيفات والدخول إلى المنزل وسرقة ما يجدونه فيه من أدوات بناء وغيرها. بل حتى صندوق العداد الكهربائي الموجود بجانب البوابة الخارجية لم يسلم من اللصوص، حيث تم فتحه عنوة وسرقة بعض القطع الكهربائية منه !

والحديث في هذا الباب ذو شجون كثيرة وكثيرة، والقصص فيه متنوعة ووفيرة ولا يتسع المقام لسرد الكثير منها، وما مر ذكره هو مجرد أمثلة، ليس إلا. ولكن ما يراد التشديد عليه فعلا هو حالة التفاقم في هذا الاتجاه، وخصوصا في ما يتعلق بالسرقة و”التلويص” وعدم أداء الحقوق والديون، والتي ينبغي أن تحمل على محمل الجد والاعتبار، وأن تُولى بالبحث والدراسة لكشف البواعث والأسباب، والتوجه نحو المعالجات الجادة، بما يحقق لمجتمعنا الاطمئنان والأمن والأمان والاستقرار الاجتماعي.

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

16/8/1999م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى