الإمام الشيرازي: أمة في رجل، ومدرسة فكرية فريدة
العظماء في هذه الحياة نادرون وقلما تجود الحياة بأمثالهم، وبهذه الندرة الضرورية تتوقد مسيرة الحياة وتزخر عطاء وتجددا وحيوية. والإمام محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي الذي انتقل إلى جوار ربه في يوم الإثنين 2 شوال 1422 هـ الموافق 17 كانون الأول (ديسمبر) 2001م بمدينة قم المقدسة بإيران هو بحق وإنصاف هو أحد أولئك العظماء النادرين الذين لم يدخروا شيئا في إفناء حياتهم في سبيل الدين والعقيدة والتقدم الاجتماعي والحضاري وحرية الإنسان والأمة من الديكتاتورية والاستبداد، روحا وفكرا وعملا، ورحلته هي بحق خسارة فادحة للطائفة الشيعية وللأمة الإسلامية ككل. فأنت حينما تقرأ سيرة هذا الإنسان وتتلمس آثاره تجد نفسك أمام إنسان عملاق لم يعرف طعم الهدوء طوال فترة حياته، وكان هدوؤه الطبيعي حينما يكون منهمكا في الجد والاجتهاد والعطاء: في التحصيل والتأليف والتصنيف والتحقيق والتدريس والوعظ والإرشاد والعمل المؤسساتي وتحسس آلام الأمة وآمالها، والعمل على كل ممكن يسهم في نشلها من براثن الجهل والتخلف والديكتاتورية والاستبداد إلى أعالي العلم والتقدم والشورى والحرية. وقد وصفه بعض مريديه بالبركان، مع فارق أن البركان ليس دائم الهيجان، فمن طبعه أن يهتاج ويهدأ فيما بعد، ثم يهتاج فيهدأ وهكذا، أما هو فقد كان دائم الحركة والعطاء بلا هدوء. ومع كل هذه الجهود الجبارة والتضحيات الجسام للإمام الشيرازي (قدس سره) على مختلف الأصعدة، يمكن للمرء أن يقول أن اللاإنصاف كان هو الممارسة التي قوبل بها حتى من داخل طائفته، وكان بذلك مظلوما مهضوما في حياته.
الآخرون حينما يبرز بينهم المبدع في ميدان ما، تجدهم يحيطونه بالتشجيع والاهتمام والتقدير والدعم والمساندة، ويقدمون له كل ما من شأنه الإسهام في تحقيق النبوغ والإتيان بما هو جديد وملبٍّ لمتطلبات الاجتماع والنهوض الاجتماعي، وفي مقدمة ذلك معرفة القدر. لكننا –كمسلمين- مع الأسف نسير في عكس التيار، فنحن لا نسيء تقدير العظماء من بيننا ولا نعدمهم الاهتمام فحسب، بل ونعمل على وأدهم ودفنهم وهم أحياء، بوسائل مختلفة تتنوع بين الإهمال والتجاهل والنكران والحسد والغيرة غير الصحية والحملات الإعلامية المنتقصة والمستخفة وسوء التقدير تحت مبررات نصطنع لها المشروعية. ثم بعد ذلك نصحو على فقدان الشخصية العظيمة والصدمة تأكلنا فنجد أنفسنا تأكلها الحسرة والأسى والأسف على عظيم كنا بالأمس لم نقدره، ونتمنى لو أنه يعود إلينا ثانية كي نقدره حق قدره ونرفع ظلمنا عنه، ونقدم له ما يوفي بحقه علينا. لكن أنى لنا ذلك وقد غيبه الموت عنا، ولم يبق أمامنا سوى خيار واحد هو تلمس المدرسة الفكرية التي أسسها والآثار القيمة التي تركها والاتجاه المتميز الذي خلفه.
من عيوبنا نحن كمسلمين كذلك أننا نحمل في داخلنا آثار الديكتاتورية والاستبداد التي اتصفت بها أنظمتنا السياسية، فنحن قمعيون واستبداديون حتى مع ذواتنا، فحينما نختلف تجدنا نفقد إطار الاختلاف، وتضيع من بيننا القواسم المشتركة الكثيرة ونتيه في جزئيات الاختلاف، ويدعي كل طرف منا أنه صاحب الحق المطلق والحقيقة المطلقة، وأن الآخرين ليسو سوى مخطئين وحسب، وتجد ممارساتنا في الواقع تسير وفق هذا التصور، وربما أوصلنا ما نحن في من اختلاف إلى أجيالنا التي هي بحاجة إلى تربية وتنشئة على تقدير العظماء وعطاءاتهم وعلى الوحدة والترابط والتماسك، كل ذلك ونحن نحسب أننا نحسن صنعا.
الآخرون –والغرب كمثال- يهتمون كل الاهتمام بنتاج مبدعيهم ويدونونه ويحتفظون به ويروجونه. بل هم مهتمون في هذا السبيل حتى بالتافه من ثقافتهم وجعله رقما مذكورا بالتدوين والحفظ والمنهجة والنشر والترويج. كثيرة هي النتاجات الغربية التافهة التي أخذت مأخذها في أوساطنا، لأن وراءها من يعملون بجد على تقديمها لنا وفرضها علينا. أما نحن –وللأسف- فلا نهتم بنتاجات مبدعينا بالصورة اللائقة، ولذا تجد أعمال الكثير منهم لا تلقى الاهتمام المطلوب من جانبنا، وربما ضيعناها وأضعنا صانعيها، وفي هذا درس وعبرة لنا في الاهتمام بالتراث الفقهي والفكري والثقافي والمؤسساتي المتميز للإمام الشيرازي وغيره من عظماء هذه الأمة.
متعددة وكثيرة هي جوانب التميز في شخصية الإمام الشيرازي (قدس سره) لا يمكن للمرء أن يتناولها من خلال مقال محدود، سواء على المستوى الشخصي أو على المستوى الفكري، وكل ما يمكن هو تقديم لمحات سريعة في هذا السبيل:
1- من صفاته الشخصية:
عرف رحمه الله بالأخلاق الفاضلة والسماحة وحسن المعاملة والزهد والتواضع وكان ذلك العابد والعارف الذاكر لله سبحانه وتعالى وهو غني عن التعريف. ويتذكر الكاتب حين التقاه برفقة مجموعة من زملائه أنه كان ذلك الإنسان الذي يرغب المرء إلى لقاه وينشد إليه كما تنشد الفراشات إلى نور المصباح. كان رحمه الله يلتقي زائره بوجه تغمره طلاقة الوجه والابتسامة المشرقة التي يفتّر عنها فم ينطق بجواهر الكلام والحكمة والفائدة، ويشعر زائره أنه يجلس إلى صديق مخلص يمنحه حسن التقدير والإصغاء للحديث، في جوي أخوي ودي تغمره البساطة واللطف والاحتفاء بالزائر.
2- القلم والتأليف والتصنيف:
احتل القلم موقعا مرموقا في مدرسة الإمام الشيرازي (قدس سره) لما للقلم من آثار عظيمة في حياة الإنسان والأمة. ويتذكر الكاتب تلك الكلمات التي كان يسمعها بتكرار من الإمام حين كان يلتقيه ومجموعة من زملائه: “أكتبوا”، تلك الكلمة التي تحمل مضامين عظمة القلم وأهميته في إحياء الأمة ونهضتها.
بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد
27/2/2002م