رداً على موضوع – حب الظهور

بعد تقديم الشكر إلى الأخ العزيز الأستاذ “الأصمعي” على طرحه لهذا الموضوع الأخلاقي الهام “حب الظهور وأثره على العلاقات”، وكذلك إلى الإخوة الأعزاء المتداخلين، يسعدني أن أشارك إخواني وأخواتي بما يلي:

1- لو سئل الواحد منا: هل تريد أن تكون شيئا مذكورا في حياتك أم شيئا مهملا أو منتقصا؟ لأجاب: أريد أن أكون شيئا مذكورا في حياتي. ولو أعاد كل واحد منا شريط حياته إلى الوراء، وعاد بذكرياته إلى أيام الطفولة المبكرة ونعومة الأظافر، وتحديدا إلى البدء من سن الخامسة تقريبا، لوجد أنه حدث له أن جاء أشخاص إلى منزله من أجل الزيارة، وفي حضور والدته أو والده وإخوته قام بإبداء نوع من النشاط الملحوظ والحركة الزائدة، محاولا لفت أنظار الزائرين إليه وإلى حركاته ومقاصده، وهو ما يعرف في اللغة الشعبية الدارجة بـ”الزَّمَط” أو “التزميط”.

2- وهذا يدل على أن في الإنسان ميل فطري إلى أن يكون شيئا مذكورا، وهذا الميل هو من أهم الفروق بين الإنسان والحيوان. مع العلم بوجود تفاوت في هذا الميل من إنسان إلى آخر، إذ البشر لا يولدون نسخا متطابقة من حيث شدة الميول والصفات، وتؤثر العوامل الوراثية والتربية والمحيط الاجتماعي في هذا الجانب (الميل إلى الظهور) كما في غيره من الجوانب.

3- ومع العلم كذلك بأن هذا الميل في الوقت الذي هو أمر موجود في الإنسان منذ طفولته المبكرة، إلا أن من واجب الوالدين أن يؤسسا هذا الميل في طفلهما على أساس أخلاقي صحيح، وأن يجيدا توجيهه فيه بطريقة صحيحة ومتوازنة، بحيث لا يقومان بقمعه ولا أن يتركاه ينحو باتجاه التطرف بما للتطرف من معان. إن قمع ميل الطفل إلى الظهور ربما يحدث في شخصيته ميلا نحو الانطواء والخوف وضعف الثقة بالنفس والشعور بالدونية، وربما ميلا نحو العدوانية والغيرة الشديدة من الآخرين والحسد. وكذلك ترك الطفل ينحو باتجاه التطرف في حب الظهور ربما يساعد على بروز شخص مفرط في العجب بنفسه، وغير متوازن، وربما متكبر أو انتهازي والعياذ بالله، ناهيك عن الأضرار الفيزيائية والمادية والمعنوية التي ربما تلحق بالشخص والمحيطين به –في داخل الأسرة وخارجها- من جراء غياب ذلك التوازن.

4- في كتابه “كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس”، يورد ديل كارنيجي قصة عن ميل الإنسان إلى أن يكون شيئا مذكورا فيقول: “كان أبي يربي في مزرعته بولاية ميسوري طائفة من الماشية (…)، وقد اعتاد أن يعرض الماشية في المعارض التي تقيمها البلدية بين الحين والحين، وكثيرا ما نال الأوسمة الحريرية الزرقاء التي تهديها المعارض لأصحاب أجود المواشي المعروضة. وما زلت أذكر كيف كان أبي يجمع تلك الأوسمة، ويلصقها في شريط حريري طويل، فإذا حضر أحد الضيوف لزيارتنا، قام إلى الشريط الحريري، وعهد لي بأحد طرفيه، وأمسك هو بالطرف الآخر، ثم راح يعرض الأوسمة على الضيف وهو ممتلئ زهوا وخيلاء. ولم تكن الماشية -طبعا- تعنى بأمر هذه الأوسمة، ولكن أبي كان يعنى بأمرها، لماذا؟ لأنها تشبع فيه الرغبة إلى أن يكون شيئا مذكورا”.

5- وإذا كانت هذه القصة تصلح لأن تكون دليلا على ميل الإنسان إلى إشباع رغبته في أن يكون شيئا مذكورا في حياته بين الناس وفي علاقاته بهم، والاعتداد بالنفس وانتظار الحمد والثناء من الآخرين مقابل استحقاقات جديرة بالحمد والثناء، فليس من الصحيح أن تؤخذ مبررا للزهو والخيلاء بالمعنى السلبي، ولا مبررا لفقدان الاعتدال والتوازن في الميل إلى الظهور بين الناس.

6- وكما ذكر الأخ الأصمعي، فطالما أن الميل إلى الظهور مؤسس على قاعدة أخلاقية صحيحة، ومن أجل غاية خيّرة ونبيلة، وليس هدفا في حد ذاته، وفي حدود التوازن والاعتدال وبعيد عن التطرف والمغالاة والإفراط في حب الأنا والتصغير من شأن الآخرين أو الإضرار بشخصياتهم ومواقعهم ومصالحهم، فلا بأس في ذلك. ومن حسن حظنا كمسلمين أننا نمتلك ثروة أخلاقية عظيمة، تهدينا إلى تربية أنفسنا وفق نظام أخلاقي يحفظ للإنسان –فردا وجماعة- القيمة والكرامة، والقدرة على العطاء والإبداع والتسامي في هذا السبيل، ويقيه من كل ما من شأنه التسبب في آثار شخصية واجتماعية منفية وغير إيجابية، ومنها حب الظهور بالمعنى السلبي أو بالصورة السلبية.

7- من ناحية أخرى، ثمة بعض الصفات الشخصية قد تؤثر بصورة ملموسة في ميل الإنسان إلى الظهور وحبه، ولعل من تلك الصفات الصفة القيادية. فالشخص القيادي ربما يكون لديه ميل أكثر من غيره إلى حب الظهور. والشخص القيادي –كغيره- مطالب بأن يكون ميله إلى حب الظهور مبنيا على أساس أخلاقي، وإلا تحولت الحالة القيادية أو الصفة القيادية إلى عبث وإضرار بالآخرين ومصالحهم.

8- وربما يخيل إلى البعض أن الميل الإيجابي إلى الظهور وحبه يتناقض مطلقا مع التواضع، ولكن الأمر ليس كذلك. فليس كل ميل إلى الظهور وحبه هو خلاف التواضع، بل في أحيان يحتاج الإنسان الإيجابي والكفؤ إلى أن يظهر نفسه بين ظهراني الآخرين -وبإخلاص- لكي يثبت كفاءته وجدارته في أوساطهم، وإلا باتت كفاءته حبيسة في نفسه، بل ربما أهمله الناس وضيعوه ووأدوه. ومثال على ذلك: الشخص القائد (والكلام عن الشخص القائد الإيجابي أو القيادي الإيجابي)، فلكي يلتف حوله الناس مطلوب منه أن يظهر نفسه للناس إضافة إلى أهمية اكتشاف جمهوره له وتشجيعهم ومبادرتهم في الالتفاف حوله. يضاف إلى ذلك أن التواضع يعطي للإنسان رفعة ومنزلة بين الناس بخلاف ما يتصور البعض أن التواضع يؤدي إلى صغر الإنسان وانخفاض مكانته. ولعل في هذا إضافة إلى ما ذكره الأستاذ الفاضل “الميزان” عن الرفعة والتواضع والإخلاص في العمل حينما أورد مقطعا من الدعاء المأثور عن الإمام علي بن الحسين السجاد(ع) في مكارم الأخلاق ومرضيّ الأفعال: “اللهم صلِّ على محمد وآله ولا ترفعني في الناس درجة إلا حططتني عند نفسي مثلها، ولا تحدث لي عزا ظاهرا إلا أحدثت لي ذلة باطنة عند نفسي بقدرها”.

9- وإخلاص العمل لله وابتغاء مرضاته كفيل بأن يجعل ميل الإنسان إلى الظهور مسيجا بسياج أخلاقي منيع. وهنا يمكن القول أننا بخير وسنبقى ومجتمعاتنا بخير ما دامت أعمالنا وتصرفاتنا وأعمالنا التي نقدمها في نفع مجتمعاتنا ومصلحتها خالصة لوجه الله، وليس من أجل مجرد الظهور وحبه والوصول إلى درجة في الناس. فإن أعطى اللهُ الواحدَ منا رفعة ومكانة في الناس وهو يفعل الخير فيهم لمرضاته وإخلاصا لوجهه تبارك وتعالى، فذلك نور منه –سبحانه- ونعمة.

10- ويتحول حب الظهور إلى حالة نفسية سلبية حينما يكون الإنسان متطرفا ومغرقا في حب الأنا، وحين يكون عاريا من القدرة والكفاءة ويسعى إلى الظهور دون جدارة، وحين يكون مجردا من الإخلاص لله وابتغاء مرضاته، وحين يكون منشدا إلى مجرد المكانة والرفعة والمنزلة والصيت بين الناس، أو حين هيمنة ذلك الانشداد على النفس، وحين يكون حسودا للأخرين فلا يهدأ له بال حتى يظهر هو ولا يظهر غيره، وحين يكون التوسل بالمخالفة هي الطريق إلى أن يُعرف ويظهر، وحين يكون حب الظهور هو الطريق له نحو تعويض شعوره بالدونية، و حين يكون العمل رئاء الناس، أو اشتراط إذاعته بينهم بغية السمعة أوالشهرة أوالوجاهة كما بين الأستاذ الفاضل “أبابيل”، أو حينما يكون هناك إشكال في النية وإخلاصها كما ذكر الأستاذ الفاضل “الروح”. وكما ذكر الأستاذ الفاضل “الأوسط”، يحتاج الإنسان في الوقاية من ذلك أو معالجته إلى التعرف إلى ذاته ومراقبتها ومحاسبتها ومجاهدتها والإيمان بأن رقابة الله –سبحانه وتعالى- موجودة والإنسان كائن تحت هيمنتها وسلطانها ولا مفر له منها.

11- والتنافس بين الناس في الخير أمر مشروع ومطلوب، “وخير الناس أنفعهم للناس” كما يقول الرسول الكريم (ص). ولكن ليس من الخير في شيء أن يعمل الإنسان على توهين الآخرين أو تسقيطهم أو النيل منهم ظلما أو بدون استحقاق في سبيل أن يرتفع هو ويزداد ظهورا ومكانة ورفعة في الناس. وكذلك ليس من الخير في شيء أن يستخدم الدين وواجباته وشعائره مطية ومركبا للظهور بين الناس والسعي إلى الدرجة العالية والمنزلة الرفيعة بينهم، وتبقى النية الصادقة والإخلاص لله وابتغاء مرضاته هي المعيار الصحيح لأي ظهور إيجابي بين الناس. كما ليس من الصحيح الطعن في إخلاص الناس بناء على أوهام أو تخرصات أو أمور جزئية، أو عيّ وحسد، أو خلافات شخصية أو دنيوية، ونحن نعلم جميعا أن كل بن آدم خطاء -وليس معصوما من الخطأ ولا منزها عن النقص- وخير الخطائين التوابون.

12- ثمة أناس يكون حب الظهور فيهم ناجم عن عّيٍّ وحسد للآخرين، فهم لا يقيمون لإبداعات الآخرين وأعمالهم وزنا، وربما يجحدونها أو ينكرونها أو يهملونها أو لا يعطونها اهتماما يذكر، أو ربما لا يتحملون أو لا يستسيغون من الآخرين أي إنجازات إلا أن تكون تحت مظلتهم أو صادرة عنهم-وهذا ظلم بل من أسوأ أنواع الظلم- أو ربما يوظفون حالة العيّ والحسد تلك في إبراز أنفسهم وظهورهم بين الناس على حساب الآخرين. وثمة أناس آخرون يدعوهم الشعور الداخلي بالضعة إلى اتخاذ حب الظهور مركبا للتعويض عن ذلك الشعور، وهاتان حالتان سلبيتان كما يعلم جميعنا، وتحتاجان إلى علاج.

13- وعن تساؤل الأستاذ الفاضل “الأصمعي: ” هل بالإمكان أن تختفي ظاهرة حب الظهور”؟ محاولة في الإجابة على ذلك أتساءل في البدء: هل أن التساؤل هو على أثر وجود ظاهرة أم أن ثمة حالات نادرة أو قليلة قد لا ترقى إلى أن تعتبر ظاهرة. وفي أي من الحالين، يمكن القول أن ميل الإنسان إلى الظهور وإلى أن يكون شيئا مذكورا هو -كما تقدم- أمر موجود على كل حال، وبنسب متفاوتة من شخص إلى آخر، وتختلف الدوافع والمنطلقات والظروف الموضوعية في هذا الظهور من شخص إلى آخر، ولا يمكن أن يختفي. أما عن حب الظهور بالمعنى السلبي فالطريق إلى معالجته والتخفيف منه (أو إزالته) هو تأسيس الميل إلى الظهور وحبه على قاعدة أخلاقية صحيحة. ولا جدال في أن إخلاص النية لله تعالى وابتغاء رضاه –كونه تعالى الرقيب على الإنسان- هي قاعدة القواعد الأخلاقية. وحمل النفس على التواضع ومراقبتها ومحاسبتها ومجاهدتها هي أمور تترتب على ذلك التأسيس. كذلك من المهم التعرف على الأسباب الموضوعية المؤدية إلى نشوء حب الظهور السلبي، والتوجه إلى معالجة تلك الأسباب. ويلعب التواصي بين الأصدقاء وحسن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دورا فعالا في علاج هذه الحالة أو الظاهرة في العلاقات الاجتماعية.

مادام أي من الإخوة المشاركين لم يتفضل بالإجابة على سؤال الأستاذ الفاضل “أبابيل”، فسأحاول الإجابة وأرجو المعذرة من مقدم الموضوع “الأصمعي” ومن كل الإخوة المتداخلين. من الذي يشخص هذه الحالة المنبوذة (حب الظهور السلبي) عند الشخص؟ فهل الشخص ذاته قادر على التشخيص أم أن التشخيص متروك للمجتمع برمته؟ هكذا تساءل الأستاذ.

نعلم جميعنا أن الفرد والمجتمع نظامان لا يستغني كل منهما عن الآخر، وعلاقة الفرد بالمجتمع هي علاقة عضوية، ومن الأفراد (وهم الأعضاء) يتكون نظام المجتمع. وبناء على هذا، فكل نظام من النظامين يحتاج إلى الآخر ويؤثر فيه، إيجابا وسلبا، وعلى مختلف المستويات: النفسية والأخلاقية والسلوكية والاجتماعية والاقتصادية والدينية وغيرها، ولا شك أن هذا التأثير المتبادل هو عملية معقدة وليست سهلة كما يبدو لكل منا. وسؤال الأستاذ يقودنا إلى التمييز بين أمرين: مسؤولية تشخيص حالة حب الظهور السلبي بين الفرد والمجتمع، وقدرة الفرد والمجتمع على تشخيص تلك الحالة.

فمن ناحية، مسؤولية تشخيص حالة حب الظهور السلبي في الأفراد هي مسؤولية مشتركة بين الفرد وبين المجتمع. فعلى المستوى الفردي،على الفرد أن يتحمل مسؤوليته في الرقابة الذاتية على نفسه ومحاسبتها ومجاهدتها ((قد أفلح من زكاها. وقد خاب من دساها)). وعلى المستوى الاجتماعي، مطلوب من المجتمع –وبأسلوب حسن وفني وحضاري- أن يتحمل دوره ومسؤوليته في مساعدة الفرد على التخلص من هذه الحالة السلبية فيما إذا أصيب بها، عن طريق التواصي والنصح والإرشاد، وحسن الأمر بالمعروف وحسن النهي عن المنكر، وإلا لانتفى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصح والإرشاد والتواصي بين الأفراد، وهي أمور ضرورية لنشر الخير والفضيلة وتعزيزهما واستمراريتهما في الاجتماع، وتقويم وإصلاح ما فسد منه. وللعلم فإن للأسلوب دور كبير في احتمالية التأثير في علاج حالة حب الظهور السلبي وغيرها من الحالات السلبية. ومسؤولية الإنسان تجاه نفسه في تغيير الحالات السلبية التي تصيبه أو تعتريه تفوق مسؤولية المجتمع تجاه تغيير تلك الحالات فيه، باعتباره أكبر المسلطين على نفسه –إذا جاز التعبير- وأقرب المقربين إليها. ومسؤولية المجتمع في تغيير حالة حب الظهور السلبي في الأفراد –وغيرها من الرذائل والحالات السلبية- تحتاج إلى معرفة وقدرة ودقة وتروٍّ وإنصاف في التشخيص وفي إطلاق الأحكام، لكي لا يتم الوقوع في جانب التعدي والجور، كما تحتاج إلى أسلوب فني حسن في التغيير، وفاقد الشيء لا يعطيه.

ومن الأمور التي يمكن الإشارة إليها هنا: حساسية قسم من الأفراد في الاستجابة لمطالب تغيير الحالات السلبية فيهم، مثل حالة حب الظهور السلبي. بل هناك من يعتبر أن ذلك نوع من التدخل في خصوصياته وشؤونه الشخصية. ويمكنني القول أنه كلما مال الإنسان إلى الفردية والتمحور حول الذات والإفراط في حب الأنا، كلما ازداد حساسية في الاستجابة لمطالب تغيير السلب فيه من قبل الآخرين، ومن ذلك السلب حالة حب الظهور السلبي. من جانب آخر، لا ننس أننا نعيش في عالم يعمل على تكريس الفردية وتقويض أو إضعاف الروح الجمعية، لكن هذا لا يعني أن نخضع ونستسلم لما يسمى بـ “منظومة القيم الجديدة” التي تحاول وتعمل العولمة المعاصرة على تنميطها وترويجها وتكريسها بين ظهرانينا، بل لابد في الحفاظ على هويتنا الثقافية أن نصون منظومتنا الأخلاقية وأن نتمسك بها.

أما من ناحية القدرة على تشخيص تلك الحالة (حالة حب الظهور السلبي)، فيفترض في الإنسان الفرد السوي أن يكون عارفا بنفسه، مراقبا، ومحاسبا، ومجاهدا لها. قال تعالى: ((بل الإنسان على نفسه بصيرة. ولو ألقى معاذيره)). وفي محاسبة الذات ومسؤولية التغيير قال الإمام علي بن أبي طالب (ع): ((من كان له من نفسه واعظ كان عليه من الله حافظ)). وجاء في الحكمة السائرة: “من لم يكن له واعظ من نفسه لم تنفعه المواعظ”. ومعرفة النفس هي شرط لإحراز القدرة على تشخيص ما يعتريها وما يحدث فيها من حالات سلبية وإيجابية، وكذلك هي شرط للتمكن من تعزيز الحالات الإيجابية فيها، ومعالجة الحالات السلبية. وهناك أمور أو حالات كثيرة تمنع أو تحول دو تشخيص الفرد لما يعتريه أو يصيبه من حالات سلبية مثل حب الظهور السلبي، وبالتالي تحول دون علاجها، ومن تلك الأمور والحالات: غياب المعرفة بالنفس (جهل المرء بنفسه)، ضبابية الرؤية للنفس، الغفلة، الانخداع، الإفراط في حب الأنا، سيطرة العواطف والانفعالات على العقل، الانقياد لهوى النفس السلبي، اضمحلال المحتوى الأخلاقي، النظرة المادية للحياة، والطريقة البرجماتية في التفكير. والتخلص من هذه الحالات وغيرها كفيل بمساعدة الإنسان على التخلص من ظاهرة حب الظهور السلبي، وغيرها من الحالات غير المحمودة.

بعد رد الشكر للإخوان الأفاضل: الأستاذ “أبابيل”، و “الوزير”، و “محب أهل البيت”، لا بأس بالعودة إلى المداخلة المفيدة للأخت الفاضلة “استمع بالروح” –بعد تقديم الشكر لها- والاستمرار في الموضوع، بعد التماس المعذرة من المشاركين والمشاركات.

ففي مقدمتها ذكرت الأخت الكاتبة ما مضمونه أن الموضوعات الاجتماعية –ومنها صفة حب الظهور وأثرها على العلاقات- قد أُشبعت بحثا في ما مضى، وتميز السيل عن الجفاء. لكن هذا الأمر لا يبدو مانعا من تكرار الحديث عن موضوعات اجتماعية وأخلاقية معينة، وذلك لأن الحاجة إليها قد تتكرر، والمجتمع -بطبيعته- ليس في حالة سكون، بل هو في حالة حركة دائمة، دائبة، ونتيجة لهذه الحركة تحدث التغيرات، وهذه التغيرات ربما أفرزت حالات وظواهر جديدة، أو ربما أشكالا مختلفة لنفس الحالة أو الظاهرة الاجتماعية، وهو الأمر الذي يولّد حاجة إلى مناقشة هذه الحالة أو الظاهرة من جديد على طريق التعرف إليها ومعالجتها. ولهذا لا مانع من العودة إلى مناقشة موضوع معين طالما أن موضوعه ما زال موجودا أو ملحّاً حسب نظر كاتب الموضوع.

تطرقت الأخت الكاتبة كذلك إلى أن بعضا منا يظهر أمام الناس بما يرضيهم قبل أن يرضي نفسه هو. وهنا يجوز للمرء أن يتساءل: هل الظهور بالشكل الذي يرضي الناس هو أمر مذموم مطلقا؟ وبنظرة منطقية، لا يبدو أن حب الظهور أمام الناس مذموم إذا لم يكن الظهور هو الغاية، وكانت الغاية نبيلة، وكانت مرضاة الله –سبحانه وتعالى- هي الأساس الأخلاقي لذلك الظهور، وكان رضا الناس منسجما مع رضا الله ومحققا له، وبالتالي فليس حب الظهور هو سلبي ومذموم مطلقا كما مر ذكره. وهناك مواضع اجتماعية –مثل التصدي للأعمال والمشاريع الاجتماعية والتطوعية والخيرية- تتطلب نوعا من الظهور، وهذا الظهور قد يترافق مع حبه (أي حب الظهور).

ومع الأخذ بعين الاعتبار أن كلا منا معرض إلى أن يصاب بحالة حب الظهور السلبي، على المستوى العملي على الأقل، باعتبارنا بشرا ولسنا ملائكة، ثمة نوعيات من الناس يدعوها عيُّها وحسدها للآخرين إلى تفسير كل ظهور منهم على أنه ظهور سلبي ومذموم، وبالتالي يكون عيّهم وحسدهم هذا بمثابة أداة تثبيط وقمع لكل مبادرة تحمل بين جوانبها شعورا اجتماعيا خيِّراً. وبالطبع، لا ينفي هذا كون هناك قسم من حالات حب الظهور ناجمة –فعلا- عن منطلقات خاطئة وغير أخلاقية، وتستدعي الاستنكار وعدم الرضا، والمعالجة. وتنتشر هذه الحالات غير الإيجابية في الأوساط التي تكثر فيها العصبيات الفردية، والعشائرية، و”الشِّللية”، ولا يكون التنافس في الخير فيها مؤسسا على قاعدة أخلاقية صحيحة.

أما بالنسبة إلى من يظهر أمام الناس ويرضيهم قبل أن يرضي نفسه، فإذا كان عدم رضاه عن نفسه ينطوي على إشكال أخلاقي فيها، فهذا الظهور ينطوي على إشكال حقيقي، لأنه مبني على غير حق أساسا. وأما إذا كان عدم رضاه عنها نكرانا لها (أي نكرانا لذاته) فهذا أمر محمود طالما أنه مؤسس على إخلاص النية لله تعالى. وللعلم فإن الظهور المبني على نكران الذات إخلاصا لوجه الله تعالى هو أفضل أنواع الظهور أو درجاته إذا جاز التعبير. وكم من أناس تواضعوا بين الناس وأنكروا ذواتهم في الله فأعطاهم الله رفعة ومنزلة ومكانة بين الناس. وفي الطرف المقابل، كم من أناس اتخذوا من الظهور السلبي بين الناس مركبا للوصول إلى مقاصدهم، فلم ينلهم ذلك إلا ضعة وصغارا. ولا ننس أننا نتكلم عن بشر، وأنفس بشرية حافلة بالنزعات والأهواء، وبالتالي فالرقابة الذاتية المستمرة أمر ضروري لحمل النفس على التواضع، ولتفادي الإصابة بحب الظهور السلبي، وغيره من الصفات غير المحمودة والرذائل.

وفي حديثها عن النواقص الذاتية، المادية منها والمعنوية، وأثرها في بروز حالة حب الظهور السلبي، تطرقت الأخت الكاتبة إلى نقطة علمية جميلة حينما قالت ما مضمونه أن المظاهر –إيجابية وسلبية- في معظمها (ومنها حالة حب الظهور السلبي) تشكل الحالة الراجعة للحالة السلوكية التي تكون حالة فسيولوجية. وهذا صحيح، حيث إن أي سلك أو تصرف يصدر من الإنسان هو ترجمة فعلية لما هو بداخله من حالات أو هيئات. وهذه الحالات الداخلية أو الهيئات تتأثر بوظائف أعضاء الجسم (الفسيولوجيا)، وبالوراثة كذلك، وبالظرف الاجتماعي الموضوعي. ولكن دور وظائف الأعضاء والوراثة والظرف الاجتماعي الموضوعي لا تلغي مسؤولية الإنسان في التعرف إلى نفسه، ومراقبتها، ومحاسبتها، وعلاجها حين تصاب بالحالات السلبية وغير المحمودة، وإلا لما كان الإنسان سوي العقل مسؤولا عن تصرفاته وسلوكه أمام الناس، وقبل ذلك أمام الله سبحانه وتعالى.

وفي ختام مداخلتها، تساءلت الكاتبة: هل هذه المظاهر اللاحتمية – ومنها حالة حب الظهور السلبي- تشكل حالة مرضية؟ أم أنها تعد حالة صحية لتغير نمطية الشعوب؟ أم أنها من متطلبات المعاصرة؟

محاولة في الإجابة على هذه التساؤلات يمكن القول:
لكي يكون الإنسان متحليا بالأخلاق الحسنة والمحمودة، لا بد له من “تكييف” أو بناء إرادته إيجابا وسلبا (أريد ولا أريد) وحملها على الأحكام التربوية (أفعل أو لا أفعل) وفق ما يقتضيه العقل والدين.

أما عن قول الكاتبة إن جميع المقادير نسبية تتحكم فيها الطبيعة المجتمعية والقدرة الشخصية، فهذا يقودنا إلى التعرف على القيم الأخلاقية والفضائل وأضدادها من حيث هل أنها نسبية ومتغيرة أو أنها ثابتة ومطلقة؟

ذهبت طائفة كبيرة من الفلاسفة، كـ “سقراط”، و “كانتْ” إلى أن الطبيعة البشرية واحدة في كل زمان ومكان، وأن هناك جانباً مشتركاً بين البشر جميعاً، ألا وهو العقل؛ ولهذا قالوا إن المبادئ الأخلاقية عامة تشمل كل الناس، وهي ثابتة ومطلقة. بينما ذهبت طائفة أخرى، يمثلها فلاسفة المذهب التجريبي الوضعي، إلى أن الأخلاق جزئية ومتغيرة ونسبية وتابعة للاجتماع وتحوله، فإذا وافقت الأخلاق حال الاجتماع فهي أخلاق فاضلة. وعلى هذا يمكن أن تكون العفة والصدق والأمانة أخلاقا وفضائل في يوم ما، ويمكن أن تكون الخلاعة والكذب والخيانة أخلاقا في يوم آخر، حسب هذا المذهب.

والحق أن القيم الأخلاقية، كحسن الإحسان وقبح الظلم، من الحقائق الثابتة، إذ الحسن والقبح العقليان ثابتان لا يتغيران، ومن غير المعقول أن يكون رفع الظلم عن المظلوم قبيحاً، أو يكون ظلم الناس حسناً، أو أن يكون العدل في زمان ومكان حسنا ويكون في غيرهما قبيحا، أو أن يكون رفع الظلم في زمان ومكان حسنا وفي غيرهما قبيحا، أو أن يكون التواضع للناس قبيحا، وحب الظهور السلبي بينهم حسنا. وعليه، فإنكار المعيار المطلق والثابت للأخلاق يوقع في عبثية خُلُقية خطيرة، وينتقض الأخلاق من أساسها، وبذلك تسود في المجتمع البشري حياة الغاب.

يبقى أن مبدأ ثبات القيم الأخلاقية والفضائل لا يهمل قاعدة “الأفعال تختلف باختلاف الوجوه والاعتبارات”، وكذلك تأثير الظروف الاجتماعية على تطبيق بعض القيم. أما القيمة الأخلاقية من حيث هي حسن عقلي ومبدأ أخلاقي فهي ثابتة لا تتغير. ومثال على ذلك: قهر اليتيم، فهو أمر منهي عنه ((وأما اليتيم فلا تقهر)) (الأضحى -9)، فلو افترض أن هذا القهر يمكن أن يحدث بالضرب، فضرب اليتيم تارة يكون من أجل قهره أو إهانته أو إيذائه أو إلحاق الضرر به أو سلبه حقه، وهي أمور غير أخلاقية وغير محمودة، وتارة أخرى (من دون إيذائه وإلحاق الضرر به) يكون من أجل تأديبه وتهذيبه وإصلاحه، وهو أمر حسن، حيث لو ترك بدون تأديب أو تهذيب أدى ذلك إلى أضرار أخلاقية على شخصيته وسلوكه وربما على الآخرين.

ومثال على تأثير الظروف الاجتماعية على تطبيق بعض القيم: عمل الأطفال، فهو غير حسن في الأصل، لأنه خلاف لمبدأ الرفق والرأفة بهم، ولا يتناسب وبنيتهم الجسمية والنفسية، باعتبارهم صغارا، ويضعف شخصياتهم ويولد فيهم العقد النفسية، ولهذا فإن المجتمع الغني يقبحه ويحظره، أما المجتمع الفقير فيحسنه ويسمح به لأنه محتاج إلى عملهم. وهكذا يصبح عمل الأطفال أحسن من باب الأهم والمهم. وعليه، فالنظر إلى الفعل الأخلاقي على أنه فعل أخلاقي دائما، و إلى الفعل غير الأخلاقي على أنه منافٍ للأخلاق دائما دون النظر إلى الاعتبار هو مورد للوقوع في اللبس والاشتباه في ثبات المبادئ الأخلاقية. وهكذا فنسبية السلوك من حيث إمكانية أن يكون فعل ما خُلقيا باعتبار ما، وغير خلقي باعتبار آخر لا تعني أن الأخلاق نسبية وغير ثابتة، بل إن ثباتها يقتضي ذلك في مواضع.

وعلى هذا فحالة حب الظهور السلبي –وهي غير حتمية- هي حالة غير صحية تستدعي الاستنكار والتغيير والعلاج. ولا يمكن القول بأنها حالة صحية لتغير نمطية الشعوب، لأن الأصل في نمطية الإنسان –إذا جاز التعبير- أن تقدر القيمة الأخلاقية والفضيلة وتحترمهما لا أن تتجاوزهما أو تضرب بهما عرض الحائط. وتعد هذه من أكبر التحديات أمام الإنسان المسلم والعربي –فردا ومؤسسات وحكومات- وعموم الإنسان الملتزم بالأخلاق والقيم في عالمنا هذا، حيث نجد أن العولمة المعاصرة تعمل على ترويج أو فرض “أجندا” جديدة على شعوب العالم –أفرادا وحكومات- تسميها “قيما جديدة” كما مر ذكره. وهذه الأجندا لا تعطي وزنا للهوية الثقافية للشعوب وخصوصياتها الثقافية وقيمها، لأنها تقوم على مفهوم “تفوق” الآخر الثقافي وصلاحية ثقافته للعصر، أو استحقاق ثقافته وأنماطه الثقافية لأن تكون كذلك بناء على تقدم علمي معين، وعلى المرئيات الاقتصادية للشركات متعددة الجنسية التي لا يهمها أن يبقى 80% من سكان الكرة الأرضية فقراء معدمون، بينما يتكدس الغنى والثروة بيد 20% فقط منهم. فهي (العولمة المعاصرة) لا تريد منا سوى أن نكون منسلخين عن هويتنا الثقافية، ومجرد تابعين ومستهلكين بامتياز.


عودة مرة أخرى إلى موضوع “حب الظهور وأثره على العلاقات” مع التماس المعذرة من الإخوة والأخوات، يطيب لي أن أضيف شيئا آخر ضمن المقاربة التالية:

وقبل البدء في هذه المقاربة من المهم التأكيد على أنها تعالج حالة عامة -وهي حب الظهور السلبي- قد نصاب بها أنا وأنت في مجتمعاتنا القروية على الأقل، سواء كان الواحد منا فردا مستقلا أو ضمن جهة أو مؤسسة اجتماعية أهلية، وليست بالضرورة هي حادثة في مجتمع قروي بعينه. وتهدف (المقاربة) بيان بعض ما يمكن أن يساهم في ترشيد العمل الاجتماعي وتغليب المصلحة الاجتماعية وجعلها فوق كل اعتبار، وقبل كل شيء جعل العمل الاجتماعي التطوعي مخلصا لله سبحانه وتعالى. إنها مبنية على أساس حسن نوايا وقصود الأفراد في جهات ومؤسسات العمل الاجتماعي التطوعي، وليس طعنا في تلك النوايا والقصود، بكل تأكيد.

لعل من أبرز المجالات أو الميادين أو الموضوعات التي تُبتلى فيها شخصية الإنسان وتُمتحن، وخصوصا الفرد القيادي والمتصدي والمتطوع، في صفة أو حالة حب الظهور بصفة خاصة، وفي غيرها من الحالات غير المحمودة، في مجتمعاتنا القروية على الأقل، لعل من أبرزها مجال أو ميدان الخدمة والمشاركة الاجتماعية التطوعية، والتنافس في هذا السبيل. ففي واقع مجتمعاتنا القروية على الأقل، مع وجود نوع تفاوت من مجتمع قروي إلى آخر، تتعدد الجهات أو المؤسسات التي تمارس العمل الاجتماعي التطوعي بمختلف أنواعه وصنوفه، سواء كان خيريا، أو حسينيا من خلال حسينية أو جمعية أو هيئة، أو ثقافيا من خلال هيئة أو جمعية أو مركز أو مؤسسة، أو إطعاميا إضافيا، أو تمثيليا مسرحيا، أو إنشاديا متخصصا، أو غير ذلك.

والباعث الرئيس في قيام مؤسسات العمل الاجتماعي التطوعي هو الحاجة المجتمعية، بينما الأساس فيها هو الشعور بالمسؤولية أمام الله والناس. بمعنى أن تكون هناك مجموعة أفراد من المجتمع يدعوها شعورها بالمسؤولية الدينية والاجتماعية إلى أن تستشعر حاجة الناس إلى المؤسسة الاجتماعية المعينة فتبادر إلى تأسيسها وإنشائها. وبناء عليه، فأي جهة أو مؤسسة اجتماعية للعمل الاجتماعي التطوعي لا تقوم على أساس الحاجة المجتمعية المشخصة، يمكن أن يصدق عليها أنها نوع من الترف المؤسسي أو الزيادة أو الإضافة التي لا تمثل حاجة اجتماعية ضرورية أو ملحّة أو منطقية على الأقل.

والتنوع في المؤسسات التي تمارس العمل الاجتماعي التطوعي هو الآخر يكون بناء على حاجة مجتمعية، وهكذا ينبغي له أن يكون، وإلا انقلب نوعا من العبث ووضع الشيء في غير موضعه. وبالتالي فإن أي تعدد في المؤسسات الاجتماعية التطوعية أو في المشاريع الاجتماعية التطوعية، لكي يكتب له النجاح الاجتماعي أو الطلب الاجتماعي على الأقل، ينبغي أن يقوم على أساس حاجة مجتمعية مشخصة، وإلا بدون وجود تلك الحاجة فوجوده يمكن أن يصنف ضمن دائرة التعدد المرتجل وغير المخطط.

دعنا نفترض الآن أن جهات أو مؤسسات العمل الاجتماعي التطوعي في مجتمعاتنا القروية على الأقل قائمة على أساس الحاجة المجتمعية، والمطلوب من هذه الجهات أو المؤسسات أن تتضافر جهودها لتصب في قناة أداء الدور الاجتماعي المطلوب منها في خدمة المجتمع. هناك صور من تضافر هذه الجهود، منها: الصورة الاندماجية. وتعني هذه الصورة أن تلك المؤسسات في مجتمع قروي ما، أو بعضا منها، يندمج في إطار واحد ليكوّن مؤسسة اجتماعية واحدة، تجتمع فيها كفاءات وقدرات وإمكانيات أفراد من مؤسستين، وتمارس العمل الاجتماعي التطوعي. هذا مع العلم بأن الاندماج المؤسسي يناسب الجهات أو المؤسسات المتساوقة أو المتماثلة أو المتشابهة في نوع الأنشطة والفعاليات الاجتماعية وفي الغرض من تكوين المؤسسة. والصورة الأخرى هي الصورة التعددية، بمعنى أن تظل كل جهة أو مؤسسة من تلك الجهات أو المؤسسات –في المجتمع القروي الواحد- مستقلة بنفسها وتمارس عملا اجتماعيا تطوعيا مستقلا يضاف إلى أعمال جهات ومؤسسات العمل الاجتماعي التطوعي الأخرى التي تجمعها معها علاقة إخاء وتعاون وتكامل في سبيل الوصول إلى أهداف مجتمعية واحدة.

ولاشك أن للاندماج المؤسسي في العمل الاجتماعي التطوعي فوائده، وفي مقدمتها التركيز والقوة حيث تجتمع قوى أكثر من مؤسسة لتكوّن مؤسسة واحدة قوية. ولعل في اندماج المصارف (البنوك) المالية دليل على ذلك، حيث يقوم مصرفان أو أكثر بالاندماج في مصرف واحد، فتجتمع قوة كل منهما إلى قوة الآخر فتتكون قوة مالية واقتصادية واحدة، مع التسليم بالفرق الكبير –من حيث التكوين والغرض- بين البنوك المالية وبين مؤسسات العمل الاجتماعي التطوعي. وفي حالات، يكون الاندماج المؤسسي حفاظا على مصلحة مجتمعية بجعل المجتمع صفا واحدا، بعيدا عن الانقسامات السلبية. وكذلك للتعدد المؤسسي في العمل الاجتماعي التطوعي فوائده، وفي مقدمتها: تغطية الحاجة المجتمعية التي ربما لا تستطيع جهة واحدة تغطيتها، أو ربما ليس من أهدافها أو من مقدورها تغطيتها، والتنافس الخيّر بين المؤسسات المتعددة في تغطية تلك الحاجة، أو السعي نحو التكامل في تغطيتها.

وفي حالات، قد يكون الجنوح نحو التعدد المؤسسي نتيجة لضعف انسجام بين الأفراد في مؤسسة واحدة لوجود اعتبارات معينة. وكما مر ذكره في مداخلة سابقة أن البشر هم عواطف ومشاعر وأهواء إضافة إلى أنهم عقول، لكن هذا لا يعني أن يكون مبررا لتشتيت القوى أو التفرق لا سمح الله. لكن الأسوأ والأخطر في الأمر أن تتحول تلك الجهات أو المؤسسات المتعددة إلى جهات متخالفة، أو متنافسة تنافسا غير خيّر، أو متصارعة، أو خطوط متدابرة-والعياذ بالله- وحينها ربما تفقد تلك الجهات أو المؤسسات بوصلتها، فبدل أن تكون متجهة نحو تحقيق الحاجة والمصلحة المجتمعيتين، تتجه إلى تحيقيق الذاتية لأفراد كل منها، والوقوع في حالة حب الظهور السلبي المذمومة.

وبناء على أن الأصل في النوايا والقصود في الأفراد في مؤسسة ما للعمل الاجتماعي التطوعي هو الخير والحسن ما لم يتبين خلاف ذلك من خلال الواقع، دعنا نفترض الآن أن التعدد في جهات ومؤسسات العمل الاجتماعي التطوعي في مجتمع قروي ما هو الحالة القائمة، وهو يمثل حالة إيجابية. فالمنتظر من تلك المؤسسات أن توجه بوصلتها الروحية نحو مرضاة الله سبحانه وتعالى، وأن توجه بوصلتها المجتمعية إلى تحقيق مصلحة مجتمعها، وتغليب هذه المصلحة على المصلحة الذاتية. مع العلم بأن المصلحة الذاتية تشمل مصلحة الفرد كفرد في المؤسسة، ومصلحة المؤسسة كمؤسسة مستقلة عن غيرها من المؤسسات.

ومن خلال هذه المقدمة الطويلة نسبيا نصل إلى الموضوع الذي يرتبط بأصل الموضوع وهو حب الظهور، وهو تنافس جهات ومؤسسات العمل الاجتماعي التطوعي في خير مجتمعها. فالمنتظر والمطلوب من ذلك التنافس أن يكون خيّرا. ولكي يكون تنافسا خيّرا ينبغي أن يكون مبنيا على مبادئ وقيم الأخوة والتواصل والائتلاف والثقة والتقدير والاحترام والتعاون على البر والتقوى والتسامح، والحب للإخوان كما الحب للنفس، والكره لهم كما الكره لها، والحفاظ على مصلحة المجتمع الواحد وتغليبها، خصوصا إذا علمنا أن هذا التنافس قائم بين أفراد مؤمنين، وفي مجتمع إيماني، حيث من المفترض في هذا التنافس أن يكون مبنيا على أساس الإيمان ومقتضياته.

إن وجود التنافس غير الخيّر –لا سمح الله- بين جهات ومؤسسات العمل الاجتماعي التطوعي قد يكون بيئة خصبة للظهور السلبي وأحد أبرز الأسباب التي يمكن أن تقود إليه. وهذا الظهور قد يكون سببا في حدوث الانقسامات، لا قدر الله. والانقسامات بدورها تقود في الغالب إلى ضعف المجتمع وتفككه، وإلى تزلزل ثقة الناس (أو المجتمع) بالجهات التي تتصدى للعمل الاجتماعي التطوعي، وخصوصا حينما تتغلب النزعات الذاتية على تغليب المصلحة الاجتماعية، فتصبح الجهة أو المؤسسة هي كل شيء. طبعا هذا لا يعني أن لا يعتد المرء بمؤسسته ويعتز ويقوي من رابطته بها باعتبارها أداة ووسيلة لخدمة المجتمع، وليست هدفا في حد ذاتها.

ومن أجل الحفاظ على مجتمع متماسك ذي مؤسسات أهلية اجتماعية متعاونة، ينبغي أن يُشعِر كل فرد -في أي مؤسسة- نفسه وكأنه عضو مشارك في المؤسسة الاجتماعية التطوعية الأخرى، وأن يكون التوجيه والثقافة في داخل الجهة أو المؤسسة الواحدة مبنيا على هذا الأساس. ومن جوهر هذه الثقافة: السعي نحو التقارب والتلاحم والتكاتف وتمتين الإخاء ووضع اليد باليد على طريق خدمة المجتمع الواحد وابتغاء مرضاة الله. إن من الأمور غير المحمودة المتوقعة: التجاذبات المحتملة التي يمكن أن تحدث بين المؤسسة والأخرى عن طريق سلوك فردي أو جمعي من مؤسسة تجاه أخرى. وهذه التجاذبات ربما يكون لها –في أحيان- أسبابها ودواعيها الموضوعية والمنطقية، لكنها في أحيان أخرى قد تكون لدواعي “تنافسية” غير موضوعية أو منطقية، وهو الأمر الذي قد يترتب عليه الوقوع في الجانب الآخر من حب الظهور، وهو حب الظهور السلبي غير المحمود.

ويعتبر الحوار الأخوي التعاوني –القائم على الانفتاح والاحترام والتقدير والإجلال- بين مؤسسات العمل الاجتماعي التطوعي هو أفضل السبل –بل السبيل السليم- نحو مجتمع متماسك تتعدد فيه مؤسسات العمل الاجتماعي التطوعي، وتفويت الطريق على أي ظهور سلبي من أن يبرز إلى حيز الوجود.

 

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد
24/11/2005م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى