مولد الإمام علي (ع) نبع الحكمة وصوت العدالة الإنسانية

والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وخير صحبه المنتجبين والتابعين لهم بإحسان إلى قيام يوم الدين، ثم السلام عليكم أيها الحفل الكريم جميعا ورحمة الله وبركاته.

إنه لمن دواعي الحاجة إلى إحياء ذكريات رموزنا العظام، واقتفاء آثار شخصياتهم المتميزة، والسير على هدى أخلاقهم الفاضلة وسِيَرِهم المعطاءة أن نحتفل جميعا في هذه الليلة المباركة بهذه المناسبة السعيدة، ألا وهي مناسبة ولادة الرمز العظيم للمسلمين وللبشرية، سيدنا ومقتدانا أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع)، نبع الحكمة وصوت العدالة الإنسانية.

وأمام شخصية هذا الرمز العملاق، وحكمته الفياضة، وسيرته النورانية، وأخلاقه الفريدة التي جمعت بين الرفق والرحمة والعطف والتسامح ولين الجانب والتواضع للناس والعدالة والإنصاف فيهم والزهد والورع، وبين الشجاعة والإقدام والقوة والشدة والاستهانة بالموت في حفظ الرسالة الإسلامية ومبادئها وقيمها ومجاهدة مناوئيها، أمام هكذا شخصية يحار المرء من أين يبدأ وإلى أين ينتهي، وخصوصا حينما يكون عامل الوقت محددا ولا يسمح بمزيد من الاسترسال والتفصيل.

مع هذا، فإن من أكثر الأسئلة إلحاحا وينبغي لكل منا أن يستعيدها باستمرار ويعمل على الإجابة عليها بصورة جدية وعملية، السؤال الآتي: أين نحن من شخصية الإمام علي (ع)، ومن أخلاقه وحكمته وعلمه وتراثه وعدالته؟ وربما يتساءل السائل: ما حدود مفردة “نحن”؟ إن مفردة “نحن” تتوجه إلينا جميعا بمختلف طبقاتنا وحرفنا واختصاصاتنا، محكومين وحاكمين، وخصوصا نحن معاشر المسلمين. إنها تشملني أنا وأنت وهو وفي أي موقع ومكان. وإن من الحقائق التي ينبغي لنا أن نؤمن بها ونعيشها عمليا في حياتنا أن الاقتداء والتأسي بالرموز والقدوات حاجة إنسانية واجتماعية وحضارية أكيدة، ولا غنى للإنسان عنها في حياته، حاكما كان أو محكوما. ومن هنا، لا يكفي للواحد منا أن يكتفي بمجرد الافتخار والاعتزاز النظري بالأمجاد والشخصيات العظيمة، ومنها شخصية أمير المؤمنين (ع)، ولا بالولاء والحب المجردين، بل المطلوب أن يكون ذلك الاعتزاز والولاء والحب مقرونا بالاقتداء والتأسي العملي، إذ أن هذا الاقتداء والتأسي  يمثل الجوهر والصميم في إحياء ذكريات الرموز والشخصيات العظيمة، وهكذا ينبغي أن يكون تعاملنا مع إحياء ذكريات رموزنا العظام. أما أن نكتفي بمجرد إضفاء مظاهر الزينة، وحضور المحافل للاستماع إلى الكلمات والقصائد والأناشيد والتواشيح والموالد وتناول الطعام بصورة دورية ومتكررة، ثم نخرج من المحافل ويكون مفهومنا للإحياء متوقفا عند هذا الحد، وتكون تصرفاتنا وسلوكنا وسيرتنا خلاف ما ينبغي أن نتعلمه من شخصية الرمز الذي نحيي ذكراه، لا سمح الله، فهذا غير صحيح وخسارة لنا ما بعدها خسارة، ومما لا ينبغي أن يكون جزء من طريقة تفكيرنا وطريقة تعاملنا مع إحياء ذكريات رموزنا العظام.

أيها الحفل الكريم!

إن من ولائنا لعلي (ع) وحبنا له ولأهل بيته أن نحب بعضنا بعضا وبإخلاص، ومن لا يحب أخاه حق المحبة ففي حبه لعلي إشكال بدون أدنى ترديد. ومن هنا فمناسبة إحيائنا لمولد علي (ع) هي مناسبة إحياء الحب في مجتمعنا، الحب في الله وفي الإيمان وفي القيم والفضائل، وهي أفضل المناسبات لتأصيل المحبة والمودة في ما بيننا، وتزكية نفوسنا، وتطهير قلوبنا، وأن لا نسمح للأحقاد والضغائن والأغلال النفسية أن تتسلل إلى قلوبنا لأسباب دنيوية تافهة، أو لمصالح زائفة، أو لأفكار وآراء منغلقة، أو لعصبيات شيطانية، أو لا سمح الله أن يكون التعامل في ما بيننا ظاهره الحب والود وباطنه الحقد أو الضغينة أو عدم الرضى. يقول سيدنا ومولانا علي (ع) في نهجه: ((أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، وابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما)). ومن ولائنا لعلي أن نبقى وباستمرار معتصمين بحبل الله، متحدين، منسجمين، متعاونين، ليس للتفرق والتنازع مكان في ما بيننا، واضعين نصب أعيننا –دائما- أُخُوَّتنا، وصلاح ذات بيننا، ومصلحة مجتمعنا، ومرضاة خالقنا. ولننظر بتأمل واهتمام ومسؤولية وانتظام إلى قول أمير المؤمنين (ع) في وصيته لولديه الإمامين الحسن والحسين (ع) حيث يقول: ((أوصيكما، وجميع أهلي وولدي ومن بلغه كتابي، بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما (ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)).

وها هو معلم من التراث العظيم الذي خلفه لنا أمير المؤمنين (ع) وهو نهج البلاغة، بل هو نهج حياة قبل أن يكون نهج بلاغة، وهو نهج الإيمان والحب والقيم والأخلاق والفضائل والحكمة والرؤى والإدارة والتنظيم والحضارة، هل يكفي أن نتعز به ونتفاخر، ونمجد فيه بأنه كتاب عظيم وزاخر بالعلم والحكمة والأفكار والرؤى الحياتية والإدارية والتنظيمية والحضارية؟ أم من واجبنا أن نهتم اهتماما عمليا وومنهجا بهذا التراث العظيم، ونحاول أن نجعل منه مادة تّدرس وتُقتفى آثارها في بيوتنا ومراكزنا ومحافلنا ونوادينا، ومضامين نعيشها عمليا في حياتنا؟ ما الذي يضير جمعياتنا ومراكزنا ومحافلنا أن تضمن أنشطتها وبرامجها دروسا مركزة في هذا السفر العظيم للنشء والشباب، بنين وبنات؟ وما يضير الشاب من شبابنا –ذكورا وإناثا- لو أنه في كل يوم تأمل في حكمة أو مجموعة حِكَم أو في فقرة من فقرات هذا الكتاب الحضاري العظيم والمتميز الذي يزخر بالخطب والرسائل والمواعظ والحكم والرؤى والمبادئ الحياتية؟

أيها الحفل الكريم!

وعلى مستوى الإدارة العامة، جدير بالقائمين على الأمور في بلادنا أن ينظروا برغبة واهتمام وجدية ومسؤولية في المكانة التي يوليها أمير المؤمنين (ع) لرعيته، وفي العدالة التي مارسها وأقامها بينه وبينهم من أجل إيفائهم حقوقهم وجعلهم كرماء أعزاء في حياتهم، وليعملوا على تلمس آثار تلك العدالة ومضامينها مع رعاياهم. وإلا ما قيمة أن يعيش القائم على الأمر في بحبوحة من العيش، وكيف له أن يشعر بالسعادة، وبأي حق، بينما هناك من رعيته من لا يضمن الحصول على القرص، أويعيش حياته في ضنك وكدر وعوز وافتقار ومعاناة وشقاء وتعاسة؟

ها هو أمير المؤمنين (ع)، أمير العدل والإنصاف وحسن توزيع الثروة والمقدرات، يبين لنا هذا المضمون في رسالته التاريخية إلى عثمان بن حنيف الأنصاري واليه على البصرة، فيقول:

((ولو شئتُ لاهتديتُ الطريقَ إلى مصفى هذا العسل، ولبابِ هذا القمح، ونسائجَ هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبنَي هوايَ ويقودَني جشعي إلى تخيرِ الأطعمة. ولعل بالحجازِ أو اليمامةِ من لا طمعَ له في القرصِ ولا عهدَ له بالشبع. أو أبيتُ مبطانًا وحولى بطونٌ غُرثى وأكبادٌ حرّى، أو أكونَ كما قال القائل: وحسبُك داءً أن تبيتَ ببطنةٍ          وحولَك أكبادٌ تحنُّ إلى القِدِّ. أأقنع من نفسي أن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش)).

إن الولاء والحب بين الرعية والراعي هما أساس أمن أي مجتمع وسلامه واستقراره، وعدل الراعي وإنصافه مع رعيته هو الأساس لذلك الحب والولاء. وهكذا ينبغي أن يفكر الولاة والقائمون على الأمور في بلادنا. وما قيمة أن ينساق الراعي أو الوالي أو القائم على الأمر وبطانته بجشع ونهم في الأملاك الواسعة والأراضي الشاسعة وفي حيازة القصور الفخمة، وفي حياة البذخ والسرف والاستئثار، بينما هناك من رعيته من لا يملك غرفة يأوي إليها؟ أو يعيش في بيت هو أشيه بكهف من الكهوف، يفتقر إلى أدنى المتطلبات الصحية والرفاهية؟ إن الحب بين الرعية والوالي لا يتعزز إلا بإشاعة العدل والإنصاف وتعزيزه، والشعور بآلام الرعية، وخصوصا الفقراء والمعوزين واليتامى والمنكوبين، وتفقد أحوالها باستمرار، وبطريقة مسؤولة ومخططة ترفع عنها تبعات الإهمال، والتوجه بتخطيط وتصميم ومسؤولية إلى مساعدتها في تجاوز تلك الآلام ومظاهر العوز والفقر والشقاء. إن الحب بين الوالي والرعية لا يتعزز إلا باحترام كرامة الإنسان، وإلغاء جميع أشكال التمييز والتفريق عمليا، وتكريس سيادة القانون ومبدأ تكافؤ الفرص –لا المحسوبيات والوساطات- في الحصول على الوظائف والأرزاق وغيرها، ومكافحة كل أشكال الفساد الإداري والمالي، وعدم التهاون مع رؤوس الفساد وأصحابه. إن تفشي المحسوبيات والوساطات وتحولها إلى التفافات على القانون يضر بمبدأ سيادة القانون، ويوجه لطمة قوية إلى مبادئ العدل والإنصاف بين الرعية وحسن توزيع الثروة، وإلى البنى والعلاقات الاجتماعية في ما بين الناس، في حين أن الواجب هو أن تكون تلك المبادئ هي الحاكمة والمكرسة في إدارة شؤون الناس ومعايشهم.

وفقنا الله جميعا للاقتداء والتأسي بهذا الرمز العظيم، سيدنا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، وأعادنا على إحياء هذه الذكريات الطيبة، وغيّر أحوالنا إلى أفضل مما هي عليه، والسلام عليكم إخواني جميعا، ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

26/8/2004م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى