المأتم والخطابة في نظرة سريعة .. دعوة للمراجعة ورؤية نحو آفاق أوسع وأشمل

يمثل المأتم محفلا إسلاميا ثقافيا يتلقى المستمع فيه المعرفة والثقافة والبصيرة في حياته، بالإضافة إلى كونه مجمعا اجتماعيا يلتقي فيه الناس، ويمارسون علاقاتهم الاجتماعية، ويتحاورون ويتفاعلون ويتشاركون في أمور حياتهم ويتعاونون، وهكذا ينبغي للمأتم أن يكون. ومع التسليم بأن وظيفة المأتم ينبغي أن تكون أكبر من خطب الخطباء، مازال المأتم –في الحالة الغالبة- مقيدا إلى حد كبير بهذه الخطب، وما زالت الأجيال المتعاقبة أسر هذه الثقافة التي لا يعي القائمون التقليديون على المآتم قصورها عن تقديم خدمة أوسع وأشمل للمجتمع. فالمأتم في فهم هؤلاء هو مجلس خطابة يلقي فيه الخطيب ما يريد قوله في مقابل أجر، أو مولد يُقرأ فيه كتاب المولد الذي نادرا ما تجد من يصغي إليه، أو حفل زواج، أو مجلس فاتحة، أو ربما احتفال، أو ندوة، مع العلم بأن مجتمعاتنا المحلية -وللأسف الشديد- ما زالت تعاني من حالة نفور من الثقافة ومن الاهتمام بما هو ثقافي، وجل اهتمامها يتمحور حول الخطابة وقصائد الرثاء والتأبين التي هي جزء من رسالة المأتم وليس كلها.

لقد قيل الكثير في نقد واقع الخطابة والخطباء، لكن كل ما قيل لا يبدو أنه يلقى آذانا صاغية، لا من القائمين على المآتم ولا من الخطباء أنفسهم، فالحال على ما هي عليه، أو بعبارة أدق: الاستجابة محدودة جدا أو قليلة من الطرفين. وإذا ما استمرت الحال على هذا النحو سيستمر واقع الخطابة على نفس المنوال، طالما لم توجد إرادة التقويم ودراسة الماضي ومراجعة لوظيفة المأتم والسعي نحو آفاق أوسع وأشمل له. والملاحظ أن خطب الخطباء في غالبها –أو في قسم كبير منها- ليست قائمة على منهج مدروس يأخذ بعين الاعتبار حاجة المستمع، والحاجة الاجتماعية عموما، والتجديد حسبما تتطلبه حاجات المجتمع، بل هي ممارسة متروكة لاختيار الخطيب وميوله ورغباته، فهو يختار ما يشاء من موضوعات، اتصلت بحاجة المجتمع أم لم تتصل. ونادرا ما تجد خطيبا يستكشف هموم المجتمع، ويعد خطبه بصورة منهجية ويتعب عليها بالبحث والدراسة، ونادرا ما تجده يعقد جلسة مع أصحاب المنطقة، يستمع من خلالها إلى الآراء في الموضوعات التي تهمهم وينبغي معالجتها، فهو يسلك أسهل الطرق في ممارسة الخطابة، مع العلم بأن هذا لا يمنع من وجود استثناءات. ولذلك تجد الخطيب في واد والمجتمع في واد آخر، وتجد كثيرا من الخطباء يقع في التكرار والحشو وملء الفراغ. بل أن بعض الخطباء لا يعد موضوعاته بصورة جيدة، ويعتمد على ما يستطيع قوله وهو على المنبر بصورة تلقائية، ويكون همه استكمال الوقت بما يجود به اللسان من الكلام وأبيات الشعر والقصيد. يقول الشاعر الأستاذ حسن المتوج في وصف حال هذا النوع الأخير من الخطباء: (قم إليهم وارتجز أقصوصة  واقرأ الأبيات والوقت كمل).

الأمر الآخر، أن جل الخطباء انقطع عن مزاولة العمل المعيشي، واتخذ الخطابة مصدرا لكسب المال، وشجع على ذلك كثرة المآتم، فالمأتم ينقسم إلى مأتمين، والقرية التي لا يتعدى سكانها الأربعة آلاف قد تجد فيها أربعة مآتم وربما سبعة أو ثمانية. وبالتالي اتسعت سوق الخطباء، وصاروا يطلبون مبالغ تعد كبيرة في مدة زمنية هي قصيرة، ونادرا ما تجد خطيبا يترك مسألة تقدير الأجرة لإدارة المأتم، بل الأغلب هناك طلب للمزيد من الأجرة، والبحث عما هو أكثر، وما لا يكسبه الموظف في سنة يكسبه الخطيب في عشرة أيام. إن هذا الواقع يشجع بروز فئة ثرية على حساب الطبقات الفقيرة. ومن هنا فالأولى بالخطباء مزاولة عمل معيشي بصورة اعتيادية،  يضاف إليه مزاولة الخطابة في مقابل مبالغ معقولة منصفة تتناسب والمجهود والمدة، وتخفف العبء الاقتصادي على المساهمين الذين أكثرهم هم من ذوي الدخل المحدود والفقراء، وما لديهم من بعض المال يحتاجونه بصورة ملحة لتسيير عجلة معيشتهم.

في حقيق الأمر، الحديث عن واقع المآتم ذو شجون لا تستوعبه بضع فقرات، ولا ينحصر في خطب الخطباء، وكل ما يمكن للمرء في هذه العجالة أن يتساءل: متى يكون لمآتمنا وظيفة أوسع وأشمل وأنفع؟

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

26/3/2003م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى