حوار مفتوح مع الكاتب السيد رضا علوي

إخواني وأصدقائي إدارة وأعضاء منتديات شبكة مهزة، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وشكرا لكم على إتاحة هذه الفرصة الجميلة لي، وهذا التوجه الطيب الذي إن دل على شيء فإنما يدل على شعور بالمسؤولية تجاه الاجتماع (المجتمع) والميل إلى رفده بالعطاء، على ودور الكلمة الطيبة والثقافة والفكر في هذا المضمار. كما يسعدني أن أتوجه بالشكر بصورة مخصصة إلى الإخوان قيصر والميزان وأبابيل لدورهم البارز في هذا السبيل وعلى مشاعرهم الطيبة. كما أشكر أخي الفاضل والشاعر المبدع السيد حسن الفضل على شعوره الطيب، وللعلم فإنني اطلعت على أغلب الحوار النافع الذي أجري معه حول تجربته مع الشعر، داعيا له من صميم قلبي بمزيد من التوفيق.

بخصوص سؤال الأخ الفاضل قيصر: هل حقيقي بأن شخصية الإنسان –بخيرها وشرها- ما هي إلا انعكاس لتراكمات التربية الوالدية التي تلقاها الإنسان منذ نعومة أظافره؟ ينبغي القول أن الإنسان حينما يأتي إلى هذه الحياة هو ليس مقطوعا من شجرة، وإنما هو امتداد لآبائه وأجداده. ومن هنا لا ينكر دور عامل الوراثة في شخصية الإنسان. ويمكن للمرء أن يتلمس هذه الحقيقة بصورة عملية وواقعية من خلال مقارنة أباء (آباء وأمهات) وأبناء، ليجد تشابها في الصفات، وليس بالضرورة كل الصفات.

وبعد الوراثة يأتي عامل التربية التي هي محور السؤال، فيكون الوالدان هم أقرب الأشخاص بالنسبة للإنسان. وينبغي التأكيد هنا على أن السنوات الأولى القليلة من عمر الطفل تشكل الأساس الذي تنبني عليه شخصيته حينما يكبر و يصبح رجلا، وفي مستوى تحمل الأعباء والمسؤوليات مستقبلا. وهي بالتالي تشكل المفتاح لشخصيته فيما إذا كنتَ ستنتهي إلى شخص سويّ، مشرّف، يرفع رأسك، أو إلى شخص جانح، سيئ السيرة، منتهك للقانون ولمبادئ السلوك المستقيمة والسيرة المشرِّفة. وانصباب جهود كثير من العلماء والباحثين والخبراء والكتاب على معالجة موضوعات الطفولة يعكس ويؤكد تلك الأهمية الشديدة والحساسية لتلك المرحلة وذلك الدور التأسيسي لها في صياغة شخصية الإنسان وتشكيلها وبنائها. وعليه فإن تراكمات التربية الوالدية تؤثر بصورة ملحوظة وملموسة على شخصية الإنسان وسيرته، بلا ترديد.

وفي هذا يقرر الدكتور روبرت كولز، الطبيب النفساني من جامعة هارفارد ومؤلف كتاب “الذكاء الأخلاقي للأطفال” “The Moral Intelligence of Children” أن هناك تضمينات أو معاني أخلاقية في كل قرار -تقريبا – يتخذه الوالد (أبا كان أو أما) قائلا: “إنها تلك الإلماعات أو التلميحات التي تتضمنها الدقائق التي تتلو بعضها في كل يوم”، وهي إشارة إلى أن سلوك وتصرفات الوالِدين هي أقرب إلى الانعكاس في شخصيات الأطفال، حيث أن الوالدين هم أقرب صورة للطفل يمكن له أن يقلدهما ويكتسب منهما”.

شكرا للأخت الفاضلة نعناعة على الترحيب، وسؤالها: الرضاعة لها دور كبير في نقل صفات الأم إلى الرضيع، ومنها تعتبر الرضاعة أحد العوامل المؤثرة والمكونة لخصال الفرد، وهذه النظرية أثبتها مشاهير الفلاسفة واعتبروها اللبنة الأساسية لبناء شخصية الفرد، فالشخصية من وجهة نظرهم قد تورث من الأم بشكل أكبر منها من الأب، فهل يتفق السيد رضا مع هذه النظرية؟

ومحاولة للإجابة على السؤال، ينبغي التأكيد في البدء على أن حليب الأم هو أفضل غذاء للطفل، وهذا أمر يتفق عليه الجميع بلا أدنى جدال. وما يميز حليب الأم أنه يجمع بين احتوائه على النسب المطلوبة من المواد الغذائية، بصورة لا يرقى إليها أي تركيب بشري، وبين حالة الدفء والحنان والعطف والشعور بالأمن والاطمئنان الناتجة عن الالتصاق المباشر، والاستلام المباشر. ولاشك أن حالة الالتصاق في الرضاعة بين الأم ورضيعها تؤثر في التكوين النفسي للإنسان، والتكوين النفسي له دوره في شخصيته. أما هل أن الرضاعة تعتبر أحد العوامل المؤثرة والمكونة لخصال الفرد، فحسب علمي أن التكوين البيولوجي والنفسي تقرره الجينات الوراثية في كروموسومات الأب والأم الموروثة من الآباء والأجداد والظروف الحياتية التي تكتنفه. أما عما ذكرتِ بأن الفلاسفة يقولون بأن الشخصية من وجهة نظرهم تورث من الأم بشكل أكبر منه من الأب، فحسب فهمي أن الشخصية تورث من الأب والأم بصورة مشتركة، وقد يكون لأي منهما النصيب الأكبر في التوريث حسب معادلات قانون الوراثة. وفي الواقع قد نجد أن بعض الأشخاص تأثروا بصفات أمهاتهم أكثر من آبائهم، وقد نجد خلاف ذلك. مع ملاحظة أن التأثير في شخصية الإنسان يتأثر بطول اجتماعه مع والده (أبا كان أو أما)، ونوعية التربية التي يتلقاها من أي منهما.

بعد تقديم التحية الطيبة والشكر لابني الفاضل نور العاشقين، كان سؤاله الأول:
هنالك أناس تتبدل وتتغير شخصياتهم تغيرا واضحا بحيث حتى أن علاقتهم مع الناس تتبدل وتتغير, فما هي العوامل المؤثرة في تقلب الشخصية وتبدلها؟ وكان سؤالها الثاني: يتجه بعض الناس إلى أسلوب العنف لضبط الأمور بينما يتجه أناس آخرون إلى الكلمة الطيبة والتأثير الخطابي لضبطها, مثال للتوضيح: ” نحن طلاب في المدرسة ونرى الشخصيات المختلفة في المعلمين، فهنالك معلم يستطيع أن يقبض ويسيطر على الصف من غير صراخ ومن غير عصا, بينما نرى بعض المعلمين يتعبون أنفسهم من الصراخ وحمل العصا للسيطرة على الصف”, فما هو السر في ذلك , هل هذا الاختلاف بين المعلم الأول والثاني يعود إلى ما يسمى بالشخصية.

بالنسبة للسؤال الأول، يمكنني القول أن هناك عوامل عديدة، منها معنوية (تتعلق بالنفس والتكوين النفسي)، وأخرى فسيولوجية (تتعلق بوظائف أعضاء الجسد)، ومن العوامل المؤثرة في تقلب الشخصية وتبدلها ما يلي:

1- الوراثة: فقد يكون هذا التقلب منتقلا إلى الإنسان من أحد والديه أو من أحد أجداده.
2- الأمراض الأخلاقية والنفسية، فهناك أمراض أخلاقية ونفسية تجعل شخصية الإنسان قابلة للتقلب والتبدل. والمعروف أن الأمراض النفسية (أو أغلبها) تنطوي على تقلب في المزاج، وهذا التقلب في المزاج قد يؤدي إلى بروز حالات مختلفة للشخصية الواحدة.
3- النظرة المصلحية الضيقة. إذ هناك من الناس من يقيم علاقاته مع الآخرين على أساس نفعي صرف، فهو يميل إلى المصلحة أينما مالت، فإذا وجد أن مصلحته محققة كانت شخصيته حسنة معهم، وإن رأى العكس، تبدلت شخصيته إلى سيئة معهم. وللعلم أن المصالح والمنافع بين الناس وتبادلها أمر مطلوب، وطريق إلى التعاون والتكامل، ولا ننسى أن الحياة هي سلسلة طويلة من المنافع والمصالح، لكن المقصود من النظرة المصلحية الضيقة أن يقيم المرء علاقاته مع الآخرين على الجانب النفعي غير القائم على أساس أخلاقي، وهذا أمر غير محمود.
4- ضعف الوعي فيما يتعلق بأساليب التعامل مع الآخرين، فهناك من الناس من يريد من الآخرين أن يكونوا نُسَخًا منه، ومع أي اختلاف يجده بينه وبينهم تتقلب أو تنقلب شخصيته، ويرتب على ذلك الاختلاف مواقف مختلفة.
5- الجهل أو الإشكال الثقافي. والمقصود أن البعض لا يمتلك الأرضية الثقافية المناسبة لثبات الشخصية، فيقع في جانب التقلب أو التبدل.
6- الاختلالات في الغدد الصم. فالمعروف أن في جسم الإنسان مجموعة من الغدد الصماء، وهي تؤثر في سلوكه وشخصيته، ومن هذه الغدد: الغدة الدرقية.

أما بالنسبة لسؤالكِ الثاني، فلا شك أن شخصية المعلم هي التي تحدد طريقة تعامله مع تلاميذه في الفصل. فالشخصية القيادية أو الإدارية يكون من السهل عليها إدارة الفصل، بينما الشخصية اللينة بزيادة أو المتسيبة يصعب عليها ضبطه وإدارته. والقاعدة الفضلى في إدارة الفصل هي التوسط بين الحسم واللين. فالمعلم مطلوب منه أن يكون رفيقا رؤوفا بطلابه، لكنه في الناحية الأخرى مطلوب منه أن يكون حازما وحاسما، غير مفرط في اللين إلى الدرجة التي تقود إلى التسيب. وأود أن أشير هنا إلى أن الرفق في حد ذاته إذا استخدم استخداما جيدا وصحيحا، وتوجه إلى مخاطبة دوافع النبل والخير في الطالب يكون له أبلغ الأثر في قيادة الطلاب في الفصل وإفادتهم، حيث تنمي هذه الطريقة الجانب الإنساني في الطالب، فيشعر أن من الجدير به التعاون مع المعلم في العملية التربوية، ويمنعه الحياء (الناجم عن مخاطبة دوافع الخير والنبل) من الإساءة إلى ذلك التعاون. وكما يقال: إذا بنيت للطرف الآخر بيتا من الزجاج في قلبك فلن يرميه بحجر. وكذلك حينما يشعر الطالب في الفصل أن المعلم مثل صديق له، فحينها تسهل قيادة الفصل، ويشعر الطالب أنه يعيش جوا اجتماعيا مفعما بالأنس والألفة. كذلك تجدر الإشارة إلى أن بعض المعلمين يلجأون إلى استخدام الصراخ والعصا لأنهم يدركون أنهم غير قادرين على قيادة الفصل وضبطه بدون ذلك، وقد يكون ذلك تعويضا عن الضعف في الشخصية، أو أسلوبا اعتادوه. كذلك تجدر الإشارة إلى أن الضرب المبرح هو وجه من أوجه إساءة المعاملة، ويجب اجتنابه، وتترتب عليه آثار كبيرة على الطالب، منها نشوء الحالة العدوانية. فإذا كنت معلما حاول جهد إمكانك أن تكون بمنأى عن استخدام الضرب والصراخ الذي لا داعي له، وتوسل بالحزم والحسم في لين ورفق. وإن كانت هناك بعض المواقف غير المحبذة من الطلاب تستثير غضب المعلم، فالمطلوب أن يتعامل معها بالتي هي أحسن.


.

الأخ العزيز إبراهيم فرحان، حفظه الباري

بالنسبة للسؤال الذي طرحته حول ما أعتمد عليه في كتاباتي، ففي الواقع أنني –من جملة أمور- أعتمد على الأمرين الذين ذكرتهما، التجارب التي عايشتها، والاستفادة من كتاب آخرين. فمن جانب، الإنسان هو إبن تجاربه، وتجاربه أقرب الأشياء إليه. ومن جانب آخر، ينبغي للكاتب أن يستفيد مما توصل إليه الآخرون ومتواصلا معهم في هذا السبيل، ويمكنه أن يبدأ من حيث ما انتهوا إليه. مع أطيب التحيات إليك.


.

الأستاذ الفاضل: الميزان، تحياتي إليك مجددا.

أشاركك الرأي -وبكل تأكيد- في أن الرضاعة الطبيعية من الأم لها دورها المؤثر في التكوين النفسي لشخصية الإنسان. وحالة بقاء الوالدين على الطهارة في التعامل مع الطفل والرضاعة التي ذكرت في شأن السيد الشهيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) لها دورها في إشاعة حالة الطهر، والشعور بالإطمئنان الذي تبعث عليه هذه الحالة. كما أن البقاء على حالة الطهارة يسهم في انتقال ظلال الطهر إلى الطفل، ويكون هذا ملحوظا بدرجة أكبر حينما يكبر، ويرى أبويه يمارسان الطهر، فيقوم بتقليدهما وتقمص أفعالهما. وكما يقول الله تعالى في كتابه المجيد: ((ألا بذكر الله تطمئن القلوب))، والوضوء عبادة، والعبادة ذكر لله. فلنحاول أن نتعود البقاء على وضوء وطهارة ما استطعنا.

كذلك تنبغي الإشارة في هذا السبيل إلى أن العرب ما قبل الإسلام وبعده كانوا يعهدون بأطفالهم الرضع إلى مرضعات يتميزن بصفات إيجابية مثل الحلم، والشجاعة، والكرم، والصدق، والأمانة، والوفاء، والقوة في الشخصية. وهذا الاختيار مبني على أساس ما للرضاعة من تأثير في نمو الطفل وشخصيته، من الناحية الفيزيائية والنفسية. وأبلغ مثال على هذا من اختيار حليمة السعدية (وهي المرأة المتميزة بصفات إيجابية مشهودة) لرضاعة نبينا الكريم، صلوات الله وسلامه عليه.

أما في ما يتعلق بسؤالكم: ما مدى تأثير الحالة النفسية والمعنوية عند الوالدين في أثناء معاملة الطفل على تكوين شخصيته وتشكيلها؟ يمكن القول أن الحالة النفسية والمعنوية في أثناء التعامل تمثل ظرفا لذلك التعامل، والمعروف عن الظروف أنها تؤثر في الإنسان إيجابا أو سلبا، مع العلم كذلك بأن للإنسان حدا من الإرادة في مواجهة الظروف السلبية ومقاومتها. والحالة النفسية (أو المعنوية) إما إيجابية وإما غير إيجابية. ومثال الإيجاب: الثقة بالنفس، والحلم، والاستقرار النفسي، والتفاؤل، والتشجيع، والمرح، والشعور بالبهجة، ومثال السلب: ضعف الثقة بالنفس، والغضب المفرط، والتوتر والخوف والاضطراب، والتشاؤم، والضجر، والكآبة، والتثبيط. فعلى سبيل المثال: الوالد (أبا أو أما) الذي يتعامل مع طفله بصورة إيجابية متفائلة سيساعد طفله في أن يكون ذا شخصية إيجابية متفائلة، والعكس صحيح، فالوالد الذي يتعامل مع طفله بتشاؤم وسلبية قد يساعد في جعل طفله معرضا للإصابة بالتشاؤم والسلبية. والطفل الذي يعامله أبواه بالتشجيع في الخير والحسن والجمال، ستنطبع آثار هذه المعاملة في شخصيته، وسيكون في المستقبل شخصا ميالا للخير والحسن والجمال، وسيكون من طبعه التشجيع. أما الطفل الذي يتعامل معه أبواه (أو أحدهما) بالتثبيط والتحبيط يمكن أن يكون لذلك أثرا سلبيا على شخصيته، وقد يكون شخصية مُثبَّطة، مُحبَطة، ومثبِّطة ومحبِّطة. ويبدو لي أنه كلما كانت الحالة النفسية للوالد (أبا أو أما) طويلة أو مزمنة، كلما كان تأثيرها أكثر على شخصية الأولاد، لكن لا يعني أن تأثيرها يكون حتميا، وكم هناك من رجال ونساء ذوي شخصيات رفيعة، وكان آباؤهم يعانون من حالات نفسية سلبية متكررة أو مزمنة. وهناك حالات نفسية مختلفة ليست بالضرورة مرتبطة بالأخلاقيات، وهي إما عارضة وقابلة للعلاج، أو مزمنة. وما لا نتمكن من تجاوزه من الحالات النفسية، فعلينا بالصبر عليه والمجاهدة من أجل تخفيفه ما أمكن، وعلى أولادنا كذلك الصبر والتحمل. وهكذا فالحالة النفسية للوالدين عند تعاملهما مع طفلهما لا يمكن فصلها عن دائرة التأثير على شخصيته، وينبغي لنا كآباء وأمهات أن نولي هذا الأمر اهتماما كبيرا، وأن نتعامل مع أولادنا ونحن في حالة نفسية لائقة، ولا ننسى أن للتشجيع (وأقصد التشجيع الإيجابي) دورا كبيرا في بناء شخصية الولد.


.

أخي الفاضل قيصر، سلام من الله عليك ورحمة وبركات.

وددت تذكير حضرتك يا عزيزي بأنني أجبت على سؤال واحد من أسئلتك التي طرحتها في بداية الحوار، وسأعود إلى الإجابة على بقية الأسئلة فيما بعد، ولن أنساها إنشاء الله.

أما عن سؤاليك اللذان انطلقت في أولهما من كلمة الإمام علي (ع): “إنما قلب الحدث كالأرض الخالية، ما ألقي فيها من شيء قبلته” وكانا: تتحدد هنا نظرية بناء الشخصية في الإسلام وكيفية تكونها لدى الإنسان منذ نشأته الأولى، فما مدى العلاقة هنا بين التربية في سن الحداثة وبناء الشخصية؟ وهل للمحيط العائلي دور مؤثر في طريقة تعامل المرء مع الغير، وكيف يكون ذلك؟

بالنسبة للسؤال الأول، المعلوم أن الإنسان يولد وهو لا يعلم شيئا، وهو كالأرض الخالية كما في كلمة الإمام، وكل ما يحمله هو استعدادات وراثية ورثها من أبويه وأجداده، والأرض الخالية لا ترفض ما يلقى فيها، فإن زرعت فيها وردا جنيت وردا، وإن زرعت فيها شوكا جنيت شوكا، ولن تجني عنبا. يعلمنا الإمام في كلمته العظيمة أن الطفل شأنه شأن العجينة، يمكنك أن تشكلها كيفما تريد، فإذا غرزت في الطفل حسنا لقيت حسنا، وإذا غرزت فيه سوء لقيت سوء، والطفل بحكم صغره وبراءته ومحدودية إدراكه وعدم تمكنه من الحكم واتخاذ القرار، أو بحكم تأثير التربية عليه لا يكون أمامه إلا أن يقبل بما يُلقى فيه وما يُنشّأ عليه، فهو وعاء يقبل ما يُلقى فيه. ويريد الإمام أن يوجهنا إلى أمر هو في غاية الأهمية، وهي أن التربية الحسنة في الصغر هي أبقى للإنسان وأثمر من التربية في الكبر، وكما يقول المثل السائر: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، والعلم في الكبر كالنقش على الماء، وكما ينطبق الأمر على التعليم كذلك ينطبق على التربية، لأن التربية في حد ذاتها تعليم. يريد الإمام أن يقول للإنسان، أيها الإنسان! اغتنم فرصة طفولة ولدك، وألقِ فيه ما يجعله شخصية قويمة ومشرفة.

ومن هنا فالتربية في سن الحداثة تعتبر الأساس في تكوين شخصية الإنسان، وإذا أردنا أن ننتج بشرا صالحين ومتميزين ليس أمامنا سوى أن نهتم بأطفالنا منذ نعومة أظفارهم كل الاهتمام، وأن نغرز فيهم معادن الحسن وقوة الشخصية وإيجابيتها ومقومات التميز والقدرة على الإبداع.

وبالنسبة للسؤال الثاني، لو أخذت قطنة بيضاء ووضعتها في إناء فيه ماء ملون بلون ما، فمن الطبيعي أن تتلون القطنة بذلك اللون، أي تتأثر بالوسط الذي وضعت فيه. وهكذا الحال بالنسبة لدور المحيط العائلي في طريقة تعامل المرء مع غيره، وفي سلوكه بصورة عامة. فالمحيط العائلي هو وسط يعيش فيه الإنسان، ومن شأن هذا الوسط أن يلقي بآثاره على شخصيته إيجابا وسلبا. وعليه، فالمحيط العائلي السليم الذي يرفل بظلال الإيمان وتراعى فيه الأخلاقيات وتلتزم، لاشك أنه سينتج فردا ذا شخصية تحترم الآخرين وتقدرهم وتعاملهم أحسن المعاملة. أما المحيط العائلي الذي يسوده الكلام البذيء والكذب والبعد عن الأخلاقيات سيفرّخ أفرادا يتعاملون مع غيرهم بمثل ما تعلموه في محيطهم العائلي. ومن هنا فالمحيط العائلي الحسن هو نقطة انطلاق الإنسان نحو معاملة الآخرين بالتي هي أحسن.


.

شكرا جزيلا للإخوان الأفاضل محب الولاية وtalib على مشاعرهم الطيبة والجميلة، وأنا بدوري أقول لهما: كثر الله من أمثالكم أيها الطيبين.


.

أخي العزيز “”القنابل الحارقة”، سألتني عن أحوالي، فلله الحمد بخير، وشكرا جزيلا لك مني على مشاعرك الطيبة، وتمنيت لو كان اسمك: “الحدائق الناضرة”.

سألتني يا عزيزي، أن ثمة أناس شخصياتهم ليست بالقوة المطلوبة، وهم يتصنعون قوة الشخصية وأن لا أحد أقوى من شخصياتهم، وثمة أناس آخرون شخصياتهم ضعيفة، ويعترفون بذلك، فكيف نتعامل مع الأوائل؟ وكيف نقوي شخصيات الصنف الثاني؟

في البدء، لابد من الإقرار بأن الناس في قوة الشخصية ليسوا متساوين، بل هم متكاملون، فمنهم من هو قوي الشخصية، ومنهم من هو متوسط القوة فيها، ومنهم من هو شخصيته تميل إلى الضعف، ومنهم من هو ضعيف الشخصية، والقوة في الشخصية والضعف فيها على درجات، والقوة في الشخصية أمر لا يقاس بالمسطرة كما تعلم، بل مقياسه أداء الإنسان ومواقفه في الظروف والاشتراطات المختلفة، وطريقة تصرفه في حياته. ومشيئة الباري شاءت أن يكون الناس متفاوتون، ولو كانوا متساوون في كل شيء، لما كان من السهولة أن يكون هناك رئيس ومرؤوس، ومدير ومدار، ولطغى بعضهم على بعض، ولكان من الصعوبة بمكان تسيير الأعمال والمشاريع. ويذكرني هذا بالمثل القائل: قومي رؤوس كلهم، أرأيت مزرعة البصل؟! ومع هذا فالتنافس في بناء الشخصية وتقويتها باب مفتوح أمام الإنسان، وهو مختار فيه ويمتلك الحرية في ذلك.

الأمر الآخر، أن التصنع في قوة الشخصية هو ليس أمرا سيئا بصورة مطلقة، ويعتمد على نية الإنسان وقصده، فإذا كان هذا القصد مبنيا على أساس أخلاقي، فما المانع من ذلك، أما إذا كان مبنيا على مقاصد غير أخلاقية وغير شريفة، فهنا يكمن الإشكال. والتصنع في حد ذاته قد يكون أمرا مساعدا للإنسان على بلوغ خصلة حسنة أو عادة جميلة. وكما جاء في الحديث الشريف بما مضمونه: ” إذا لم تكن حليما فتحلم، فإنه قلما تشبه أحد بقوم إلا وأوشك أن يكون مثلهم”. فإذا لم يكن الواحد منا حليما –على سبيل المثال- وتصنع الحلم، أي تكلفه، فإن هذا مع استعمال الإرادة، ومع مرور الزمن سيساعده في أن يكون حليما إلى حد ما. وإذا كان الواحد منا –على سبيل المثال- ذا شخصية ليست بتلك القوة، فما المانع أن يتصنع القوة لكي يقوي من شخصيته، لا أن يجعل ذلك التصنع أو التكلف في حد ذاته هدفا له. إن تحول التصنع في قوة الشخصية إلى هدف هو أمر ينطوي على إشكالية، وقد تكون هذه الإشكالية أخلاقية. ثم أن التنافس في قوة الشخصية لا يبدو أمرا غير محمود طالما كانت القصود والنيات حسنة وطيبة، وطالما كان ذلك التنافس في حدود الخير والحسن والجمال.

ثم أن قوة الشخصية ينبغي أن توجه في ما يرضي الله سبحانه وتعالى، وفي ما فيه نفع لعباده، لا في مجال إذلال الآخرين أو إضعافهم أو التنمر عليهم أو استعبادهم أو التقليل من شأنهم أو السخرية منهم أو تحقيرهم. وهكذا فطريقة تعاملنا مع أصحاب الشخصية من النوع الأول أن نقدرهم في ما إذا كان تصنعهم للقوة في الشخصية نابع عن قصود طيبة وحسنة، والقصد الطيب هنا أنهم يريدون أن يقووا من شخصياتهم في ما يرضي الله. والأصل في الأمر أن الناس قصودهم طيبة وحسنة ما لم يثبت خلاف ذلك بالدليل المقنع، وأن لا نتعجل في الحكم عل قصود الآخرين.

أما كيف نقوي شخصيات الصنف الثاني وهم ضعاف الشخصية، فيمكنني القول أن القوة في الشخصية جانب منها يرتبط بالوراثة، والجانب الآخر مكتسب، يعتمد على سعي الإنسان وجهده واجتهاده. بل حتى الضعف الوراثي في الشخصية يمكن تحديد استعداداته الوراثية، بمعنى تفويت الفرصة على هذه الاستعدادات لأن تتحول إلى صفات دائمة ومستمرة. ولا شك أن هذا الأمر يحتاج من الإنسان الجهد والاجتهاد والمثابرة والاستمرارية والصبر. فلكي نقوي شخصيات هذا النوع، واجبنا في البدء أن نعزز ثقتهم بأنفسهم وأن نعطيهم الأمل، وأن نجعلهم مقتنعين بأن القوة في الشخصية هو أمر قابل للاكتساب، وليس أمرا مستحيلا، وأن نقدم لهم العون والمساعدة في بلوغ هذا الهدف النبيل.
مع أطيب تحياتي إليك.

خليق بي في البدء أن أشكرك أستاذي العزيز أبو كوثر على مشاعرك النبيلة، ويسعدني أن أتلقى سؤالك الكريم.

سألتني: بما أننا نتكلم عن الشخصية، هل يمكن لكتب علم النفس الحديثة بناء شخصية يمكن أن نحدد معالمها مسبقا، فمن خلال قراءتي وجدت أن علم النفس ممكن استخدامه في صنع الشخصية والسيطرة عليها بسبب ما يحاكيه هذا العلم من دراسة لجميع تصرفات البشر، وكذلك ما يخص سلوك البشر عامة، فما تعليقك على ذلك؟

لا يبدو أن ثمة خلاف في أن علم النفس وتطوره قدم إسهامات كبيرة لخدمة البشرية، وبصورة خاصة فيما يتعلق بدراسة النفس الإنسانية وما تنطوي عليه من موضوعات، وما أكثرها، وما أكثر تشعبها. لكنني في نفس الوقت أرى بأن علم النفس الحديث ليس كل شيء، بل أن كثيرا من رؤى علم النفس وحكمه هي متوافرة في كتاب الله العزيز، وأحاديث رسولنا الكريم وما نقله عنه (ص) أئمتنا العظام سلام الله عليهم. وفي اعتقادي أن التأمل الجاد والتدبر في القرآن الكريم وفي أحاديث رسولنا الكريم وأئمتنا العظام كفيل بأن يزود المرء بثروة حياتية نفسية كبيرة لا يستهان بها.

لقد جاء علم النفس وفصل وتعمق في ما أجمل من رؤى وأفكار نفسية هي ليست بجديدة، مع العلم بأن لعلم النفس الحديث إضافاته القائمة على التجربة، والبحث الميداني والإحصائي. والتحليل النفسي الذي عرفت به مدرسة فرويد –على سبيل المثال- هو ليس بأمر جديد، كل ما هنالك أن هذا الرجل تأمل كثيرا في النفس الإنسانية ودرسها وبحث فيها وسجل بحوثه واستنتاجها، وتوصل إلى أمور أو قواعد قام بتنظيمها، تساعد في تشخيص أحوال النفس الإنسانية ككيان قائم، وبالأحرى بعض أحوالها، وبعض ما يعتريها من حالات إيجابية أو سلبية مرضية. مع العلم بأن فرويد قد وقع في مأزق كبير حينما أرجع كل الانفعالات النفسية وجميع وجوه السلوك الإنسانية إلى منشأ جنسي، وفي هذا يخالفه غالبية علماء علم النفس الحديث والمعاصر.

ولا يبدو أن هناك خلاف في أن علم النفس قدم إسهامات تساعد في تقويم الشخصية الإنسانية وبنائها، وعلاج ما قد يعتريها من نواقص أو عيوب أو عاهات أو أمراض. وبالتالي فهو أداة هامة ينبغي استثمارها في تقويم شخصية الإنسان، وفي تربية النشء. ومن المهم الإشارة هنا إلى أهمية المعرفة السيكولوجية أو الوعي السيكولوجي في التربية. فالوالد (أبا وأما) ينبغي أن يكون على دراية نفسية –ولو بالحد الأدنى- بالطبيعة البشرية لطفله. وهناك كثير من الممارسات التربوية الخاطئة التي يكون سببها عدم وجود هذا الوعي أو هذه المعرفة، ويدفع الطفل بسبب ذلك ثمنا باهظا. كيف يتفهم الوالد حاجات طفله، وكيف يتفهم انفعالاته عندما يكون (طفله) غضبا، أو مهموما حزينا، أو مفرطا في البكاء، أو ميالا إلى العدوانية، أو منكفئا، أو عنيدا، أو مفرطا في البكاء، وما إلى ذلك من حالات.

وبالتالي فإنني أشاركك الرأي في أن لعلم النفس دورا في صنع الشخصية الإنسانية وتوجيهها. أما هل يمكن لكتب علم النفس الحديثة بناء شخصية يمكن أن نحدد معالمها مسبقا، فيمكنني القول أن إسهامات علم النفس الحديث لا يستهان بها في خدمة الإنسانية بشكل عام، وفي بناء الشخصية بشكل خاص، ويمكنها أن تقدم الكثير الكثير للإنسان.


.

تحية طيبة لك أخي العزيز “جرح المشاعر”، وشكرا لمشاعرك الطيبة.

سألتني: أن كثيرا من الأولاد يحذون حذو شخصيات والديهم، ولكنك لاحظت أن هناك آباء هم في أعلى المراكز، وهم على خلق جميل في الناس، ولكنك تستغرب أن أبناءهم على العكس منهم، فتجدهم يتصرفون تصرفات غير مقبولة مثل تدخين السجائر، ومرافقة أصحاب السوء وغيرها، فكيف يمكن للأب صقل شخصية ابنه كيما يكون مشرفا له ولمجتمعه؟

أن يكون الأب عالي المركز وعلى خلق جميل في الناس هو ليس بالأمر الكافي لكي يكون الولد على شاكلة أبيه، جميل الأخلاق، وطيب السيرة. فنحن لا نلد ونحن نحمل صكوك شخصيات والدينا الجميلة والطيبة. إن الأمر أبعد من ذلك، فالأب الطيب وحسن الأخلاق هو ليس في غنى عن تهذيب ولده وتأديبه ومتابعته في الجانب الأخلاقي كما في غيره من الجوانب. ولا ننسى أن للبيئة والمحيط الاجتماعي دورا مؤثرا في شخصيات الأولاد (بنينا وبنات)، بل أن التوجيه الحسن للإبن من قبل الأب والأم قد ينسفه تأثير المحيط الاجتماعي السيئ، وأشد ما في المحيط الاجتماعي من تأثير يأتي من الصحبة والصداقة كما نعلم جميعا. فصحبة -قرناء السوء- كما ذكرت تؤدي إلى التأثر السيئ، وكما تقول الحكمة العملية الشهيرة: “من عاشر قوما أربعين يوما صار منهم”. وكما تقول الحكمة العملية الشهيرة الأخرى: “قل لي من تصادق، أقل لك من أنت””.

مما يؤسف له أن هناك كثيرا من الآباء الطيبين هم في شغل شاغل عن أولادهم، وقد يكون ذلك بسبب الإهمال، أو اللاأبالية، أو لكثرة الانشغالات الحياتية التي تجعلهم لا يقدرون على التوفيق بينها وبين الاهتمام بأولادهم. وجدير بهم أن يعطوا لأبنائهم ما يليق بهم من اهتمام، وأن يركزوا في صداقات أولادهم، ويعملوا على توجيهها بما فيه مصلحة الأبناء. وبهذه الطريقة يستطيع الأب صقل شخصية ابنه ويؤهلها لأن تكون إيجابية ومشرّفة.
مع أطيب تحياتي إليك.
أخي العزيز “الهواء”، تحية طيبة لك مني.
في ما يتعلق بسؤالك عن نسبة الوراثة في شخصية الإنسان، والنسب المئوية التي يرثها الإنسان في شخصيته من الأب، الأم، ويكتسبها من المجتمع وعن السبب الرئيس في اختلاف شخصية الإنسان من فرد إلى آخر، كيف تصبح شخصية عصبية، وأخرى هادئة باردة.

لا أستطيع أن أحدد نسبا مئوية معينة، لكن يمكنني القول أنه حسب التمازج الجيني بين جينات الأب وجينات الأم، وحسب تغلب بعض الصفات على الأخرى، تكون النتيجة في الإبن، وهذا الأمر ينطبق على الجانب الفيزيائي، وعلى الجانب النفسي. دعني أضرب لك مثالا بسيطا: يتزوج رجل من امرأة، ويلدان طفلا. من صفات الأب الفيزيائية أن أظافره طوال، ومن صفات الأم الفيزيائية أن أظافرها قصار، ويأتي الإبن بأظافر قصار مشابهة لأظافر أمه. هنا تغلبت صفة قصر الأظافر في الأم على صفة طول الأظافر في الأب، وكانت النتيجة قصر الأظافر في الإبن. وكذلك بالنسبة للصفات النفسية، قد يتزوج رجل هادئ الأعصاب، بامرأة عصبية، فيكون الإبن حليما مثل أبيه، وهنا تغلبت صفة الحلم في الأب على صفة العصبية في الأم. وهكذا.

والصفات في الشخصية، من جانب تتأثر بالوراثة، حتى يقال بأنه لا مفر للإنسان من الاتصاف بصفات ورثها من أبويه، إيجابا أو سلبا، ومن جانب آخر تتأثر بالتربية والبيئة (وخصوصا المحيط الاجتماعي). وتغلب أي من الجانبين في الصفات في الشخصية يعود إلى عدة أمور، من أهمها تعامل الوالدين والإنسان نفسه مع الاستعدادات الوراثية التي ورثها من أبويه وأجداده. فقد يولد شخص ذو استعداد وراثي يؤهله للاتصاف بصفة الدعابة والمرح –على سبيل المثال- لكنه ولظرف ما ينشأ في بيئة خاصة توجهه باتجاه الجفاف والجدية الزائدة، فهنا قد تضعف استعدادت الدعابة والمرح الوراثية في الإبن، وقد يتحول إلى شخص يتصف بالجفاف والجدية الزائدة.

وهنا نقطة محورية لابد من الإشارة إليها، وهي أن الاستعدادات الوراثية السلبية لا ينبغي أن تكون مبررا للإنسان لأن يقول لا داعي للتربية طالما أن الإنسان مجبر على خصال أو استعدادات ورثها من أبويه. إن هكذا تفكير من شأنه أن يلغي دور الإرادة الإنسانية في التربية والتأهيل النفسي وتعديل الصفات، بل إن هكذا تفكير يفيد بأن الإنسان ليس مسؤولا عن سلوكه وتصرفاته، بينما الإنسان مسؤول عن تلك السلوك والتصرفات، إلا إذا كان فاقدا للعقل أو الاختيار. ومن هنا لابد للإنسان أن يجد ويجتهد في تربية نفسه، وفي تربية من هم تحت مسؤوليته، كأولاده، وطلابه. ويقرر علماء التربية والنفس أنه حتى الصفات الوراثية النفسية يمكن التحكم فيها، بعدم إتاحة الفرصة للاستعدادات الوراثية لأن تأخذ مجراها في شخصية الإنسان وتتحول إلى صفات دائمة ومهيمنة، ولا شك أن للتربية دورا أكيدا في ذلك.

أما عن السبب في اختلاف شخصيات البشر، كأن تكون شخصية عصبية وأخرى هادئة، فالأمر يعود إلى الجانبين: الوراثة والتربية (المحيط)، والتربية تشمل كل ما من شأنه التأثير في التكوين النفسي لشخصية الإنسان، ومن ذلك: تربية الوالدين، وعموم المحيط الاجتماعي الذي يتواجد فيه الإنسان، كالمدرسة، والمؤسسة، والشارع، وغيره، بل حتى البيئة الطبيعية بعواملها المختلفة، من حرارة وبرودة وجفاف ورطوبة وضغط جوي تؤثر في نفس الإنسان. وبكلمة: أن الأسباب إما وراثية، وإما محيطية، وإما وراثية ومحيطية معا.


.

أخي الفاضل تيناوي، شكرا على الترحيب، وتحية أخوية طيبة مخلصة لك مني.

سألتني –عزيزي- عن الصداقة ومدى تأثيرها في بناء شخصية ناجحة، وعن أهم أساليب التوجيه والإرشاد التي يمكن الاعتماد عليها في بناء شخصية الطفل.

بالنسبة لسؤالك الأول، فالصداقة هي ليست مجرد لقاء شخصي أو اتصال مجرد، بل هي علاقة تأثر وتأثير، إنها علاقة تفاعل. وإذا كان هذا هو شأن الصداقة فتأثيرها في بناء الشخصية أمر مركزي. ومن هنا ليس من المبالغة القول بأن الواحد منا إذا أراد أن يصنع من نفسه شخصية ناجحة ينبغي أن يصادق صديقا ذا شخصية ناجحة، والحد الأدنى من النجاح في شخصية الصديق أن يكون ذا سيرة طيبة ومشرفة. هكذا هي طبيعة الحياة، الحسن يقود إلى الحسن، والسوء يقود إلى السوء، والنجاح يقود إلى النجاح. وهذه القاعدة تسري في مجال النجاح الأخلاقي وما يتعلق بالسيرة النفسية والسلوكية، وفي ما يتعلق بالإبداع في الحياة والمبادرة والجد والاجتهاد فيها.

إن من الأسباب الرئيسة في الانحرافات والوقوع في الجنوح والجريمة هي الصداقات. كم من الشخصيات الطيبة التي ارتبطت بشخصيات سيئة، فانقلبت وتحولت من الطيب إلى السوء. وفي الطرف المقابل، كم من أناس جانحين انقلبوا إلى طيبين بفعل التحول في صداقاتهم، حينما تركوا من هم غير جديرين بالمصادقة، والتحقوا بمن هم جديرون بها. ومن هنا، من أجل صناعة شخصية إيجابية وناجحة لا بد من إقامة الصداقة على قاعدة حسن الاختيار، اختيار الجديرين بالمصادقة، والمستحقين لها. قاعدة أساسية ينبغي أن تتحول إلى مفهوم لا شعوري فينا، نمارسه في حياتنا كديدن ومنهج لا نحيد عنه.

أما عن أهم أساليب التوجيه والإرشاد التي يمكن الاعتماد عليها في بناء شخصية الطفل، فهي كثيرة ومتنوعة، منها ما هو قواعد تربوية، ومنها ما هو أساليب وطرق، وسأسردها منوعة في صورة عناوين للاختصار، ومنها:
أ‌- معرفة بالطبيعة البشرية للطفل (المعرفة السيكولوجية ولو بالحد الأدنى).
ب‌- تكريس الجانب القيمي الأخلاقي في شخصية الطفل بصورة عملية.
ت‌- تفهم حاجات الطفل، وتلبيتها بصورة عاقلة وعادلة.
ث‌- حب الطفل والعطف عليه وإشعاره بالأمن والاطمئنان.
ج‌- التقرب إلى الطفل ومصادقته والتصابي معه، واحتضانه أسريا.
ح‌- التشجيع الإيجابي للطفل.
خ‌- صناعة الثقة بالنفس في الطفل.
د‌- تقدير الطفل وإشعاره بالأهمية.
ذ‌- اجتناب تحقير الطفل أو السخرية منه.
ر‌- المحاسبة لمشاعر الطفل.
ز‌- الموعظة والنصيحة المباشرة.
س‌- انتظار الفرص المناسبة للتوجيه والإرشاد.
ش‌- استخدام القصة في التوجيه والإرشاد.
ص‌- استقبال أسئلة الطفل بصدر رحب والإجابة عليها بذكاء وحكمة وبكَفاءة وكِفاية.
ض‌- إعطاء الطفل دورا عمليا في الأسرة.
ط‌- التحبيب والتشويق في العلم والمعرفة والثقافة.
ظ‌- استكشاف استعدادات الطفل وقدراته.
ع‌- تعزيز وتنمية المهارات والفنون.
غ‌- تكريس الشعور الاجتماعي.


.

الأخت الفاضلة نعناعة، بعد التحية الطيبة، وتقديم الشكر لك على أسئلتك.
سألتيني: ما هو أثر المصائب التي تنزل بالشخص، وتقمص الشخصيات، والانخراط في العمل في تحول الشخصية؟

بالنسبة للعامل الأول وهو المصائب التي تنزل بالشخص، لابد من القول بأن الحياة ساحة لتغيرات الظروف والأحوال، والمصائب أو النوائب التي تنزل بالإنسان هي متغيرات ظرفية يفيق الإنسان فيها على مرحلة جديدة من حياته. والناس أمام أثر المصائب على أنواع حسب تنوع شخصياتهم وحسب درجات القوة والضعف فيها، فمنهم من يجزع ويصاب بصدمة عنيفة، وقد تشل المصيبة شخصيته. ومن الناس من يصاب بأثر نفسي مرضي قد يكون مؤقتا، وقد يكون دائما. ومنهم من يواجه المصيبة بقلب قوي، وشخصية صابرة، وبدل أن تهزمه المصيبة أو النائبة وتغير مجرى حياته، يخرج منها وهو أقوى وأثبت وأرزن، وكأنه تلقى درسا كبيرا في الثبات والقوة والتصميم. ولا ننسى أن للإيمان دورا كبيرا في مواجهة المصائب والنوائب، والأحاديث الشريفة تؤكد على أن من صفات المؤمن أنه وقور عند الهزاهز، أي قوي عند الشدائد. طبعا لا يعني هذا أن المؤمن لا يتأثر سلبيا بالمصيبة كغيره، فهو يتأثر بالطبع، ولكنه يمتلك استعدادا لا يتوفر لغير المؤمن، وهذا الاستعداد يتمثل في الارتباط الروحي بالله، والتوكل عليه، والتسليم لقدره وقضائه. كما لا ننسى كذلك أن الإيمان نفسه على درجات، واختلاف الدرجة يؤثر في مواجهة المصيبة أو النائبة والتكيف معها كما نعلم. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، قد تكون المصائب والنوائب ظروفا لتحول الشخصية نحو الإيجاب، خصوصا إذا ترافق ذلك مع الصحوة الضميرية الوجدانية للإنسان. كمثال على ذلك: كم من إنسان كان في صحة وعافية، ولكنه كان في حالة عصيان وفسوق وغفلة من أمره، فابتلي في جسمه أو نفسه بمرض، فكان هذا المرض فرصة له نحو الانقلاب باتجاه الطاعة والاستقامة واليقظة.

وبكلمة: المصائب ظروف استثنائية تختبر فيها شخصية الإنسان وتبتلى، وبقدر ما تكون شخصيته قوية وثابتة، تكون درجة ثباته فيها. وما من شك أن المصائب كما مر ذكره تؤثر في شخصية الإنسان وفي تحولها سلبا أو إيجابا.

أما عن تقمص الشخصيات، فجدير بنا في البدء أن نتساءل: ما هو التقمص؟ التقمص في اللغة هو لبس القميص، فتقمصت قميصك يعني لبسته. ويستخدم التقمص على سبيل الاستعارة، فعندما تقول: تقمص فلان لباس العز، أي لبس العز كالقميص. ويزعم البعض أن التقمص هو انتقال الروح من جسد إلى جسد آخر، بجعل الأجساد أقمصة للأرواح، تنتقل من واحد إلى آخر منها.

وأن يتقمص الطفل شخصية والده (أمه أو أبيه) يعني أن يلبس شخصية والده، ويحاول أن يقلدها ويحاكيها في تصرفاته وأفعاله وصفاته. وفي الواقع أن للتقمص دور في نمو شخصية الطفل وفي تحولها، ويتفاوت الأطفال في درجة التقمص، وهناك أطفال يحاولون أن يتقمصوا شخصيات والديهم بصورة قد تصل إلى درجة النسخة المشابهة، أي يحاولون أن يتقمصوا شخصيات والديهم في كل شيء. وتتجلى خطورة التقمص حينما يكون الوالدين قدوة غير حسنة للطفل، فيقوم الأخير بلبس صفاتهما وعاداتهما غي المنفية.

من ناحية أخرى، لا غنى للإنسان في هذه الحياة عن اتخاذ الرموز والقدوات، واتخاذ القدوات يمكن القول عنه أنه تقمص أو نوع من التقمص. والقرآن الكريم يحثنا في آياته الكريمة باتخاذ النبي الكريم (ص) قدوة وأسوة ((ولكم في رسول الله أسوة حسنة))، والاقتداء والتأسي الإيجابي يقتضي حمل النفس وتربيتها على الاتصاف بصفات الرمز والقدوة. وعلى طول مسيرة التاريخ البشري، لم يخل تاريخ أمة من الأمم من الرموز والقدوات، ومن اتخاذ الرموز والقدوات. واتخاذ الرمز والقدوة قاعدة أساسية في بناء الشخصية الإنسانية.

أما عن الانخراط في العمل، فهو يعمل على أن تكون الشخصية مستغرقة ومنهمكة في عمل ما، أو في مجموعة أعمال، فتعيش الشخصية أجواء العمل وتتأثر بحيثياته ووأحواله واشتراطاته. ويمكنني القول أن الاخراط في العمل يفعل في الشخصية الشيء الكثير، وكم هناك من أناس تحولت شخصياتهم من السلب إلى الإيجاب بفعل انخراطهم في أعمال إيجابية، جعلتهم أصدقاء ومرافقين للإيجاب، وأبعدتهم عن التفكير في السلب أو إتيانه. يضاف إلى ذلك أن الانخراط في العمل طريق إلى الإنتاجية والإبداع.


.

أخي العزيزي “جابر” تحية طيبة كبيرة أقدمها إليك، وأنا ممتنّ لمشاعرك الجميلة، ولا شكر على واجب يا عزيزي،، ومنك ومن جميع الإخوة المشاركين أستفيد.


.

الأخ العزيز “أبو الجدود”، بعد تقديم تحياتي الأخوية المخلصة إليك، والشكر على مشاعرك النبيلة، بارك الله فيك وفي أمثالك.

سألتني: كيف لنا أن نعرف أن إنسانا ما يمتلك شخصية فريدة من نوعها؟ ورأينا في هذه الدنيا عظماء وأجلاء لم نعرفهم من قبل، وإنما عرفناهم من خلال إخلاصهم لله وتربيتهم المتميزة، ومن أمثال تلك الشخصيات: الإمام الراحل روح الله الموسوي الخميني (قدس سره)، هل كان للتربية والمجتمع دور في بناء شخصيته (رضوان الله عليه)، وما هي العوامل التي تساعد على بناء الشخصية بشكل عام؟

عن الشق الأول لسؤالك، تعرف الشخصية الفريدة لإنسان ما من خلال طبيعة وواقع هذه الشخصية ونتاجاتها وآثارها في الواقع الاجتماعي. وتختلف الشخصيات وتتفاوت في أبعاد الإبداع التي تكون عليها وتميزها بالفرادة، فقد تكون شخصية ما مبدعة في جانب معين، وقد تكون مبدعة في أكثر من مجال. ولا شك أن للاستعدادات والمهارات في الشخصية والتربية التي تلقتها والإرادة والتصميم والهمة والنشاط والفاعلية دورا في تشكيل تلك المجالات فيها من حيث الكيفية، ومن حيث التنوع أو عدمه. فهناك شخصيات تاريخية أبدعت في مجال واحد، وهناك شخصيات أبدعت في أكثر من مجال. فعلى سبيل المثال إذا تحدثنا عن الفرادة والتميز في الإبداع العلمي، هناك شخصيات أبدعت في أكثر من مجال علمي في نفس الوقت، كالإبداع في الفقه والفلك والرياضيات في آن واحد. فمثلا ابن سينا، كان طبيبا وفي نفس الوقت كان فيلسوفا.

ويمكنني القول أن الفرادة (أو التميز) في الشخصية ترتبط بثلاثة جوانب أساسية، من جملة جوانب متعددة لا يتسع المجال للتفصيل فيها، وهي العقل (الحكمة النظرية)، والأخلاق (الحكمة العملية)، وما تقدمه الشخصية للاجتماع من مُخرَجات، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه بالإنتاج أو العطاء. فالمعروف عن الشخصية الفريدة أنها شخصية عاقلة وذكية وحاذقة، تفكر بصورة معمقة، وذات نظرة واسعة تتصف بالدقة والرحابة أو الشمول، وتضع الأمور في مواضعها. وهي في المنظار الإنساني العام وفي المنظار الديني الخاص شخصية أخلاقية، تؤمن بالقيم الأخلاقية وبضرورة تطبيقها وديمومتها في الواقع الإنساني، وتؤمن بأنها حاجة أكيدة وضرورة من ضرورات الاجتماع الإنساني المتحضر. وهي شخصية ذات آثار اجتماعية (علمية أو عملية أو علمية وعملية)، وذات اهتمام اجتماعي متميز. والفرادة في الشخصية هنا هي الفرادة الإيجابية بالطبع، حيث أن موضوعنا هو موضوع الفرادة في الشخصية الإيجابية.

والمتأمل في شخصية قائد الثورة ومؤسس الجمهورية الإسلامية في إيران، الإمام الخميني (رضوان الله عليه)، يجد أن الجوانب الثلاثة المتقدمة تمثلت في شخصيته الفذة تمثلا بارزا. فهو من جانب الرجل الحكيم العاقل و الفقيه المجتهد القادر على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها، والفيلسوف العرفاني صاحب النظرة الشاملة إلى الحياة، وهو من جانب ثان رجل الأخلاق والقيم، والرجل الإنساني الذي لم يدخر جهدا في تزكية نفسه وحملها على مصاحبة تقوى الله وخشيته والاتصاف بخِلال النقاء والحسن والجمال، ومن جانب ثالث هو الرجل القائد المتصدي الشجاع المقدام، وذو النظرة الاجتماعية الثاقبة، والمؤمن بمبدأ سيادة القيم الأخلاقية في واقع الإنسان، والإنسان الغيور -على دينه ومجتمعه وأمته- الذي أعطت نضالاته وتضحياته ونضالات شعبه أعظم ثورة ونهضة شهدها القرن العشرين.

ولا ترديد في أن للتربية والمجتمع دورا متميزا في بناء شخصية الإمام، وكان للظروف الاجتماعية والسياسية التي عاشها في طفولته وشبابه دورا مؤثرا في ذلك. كان (رضوان الله عليه) حديث السن حينما استشهد والده المرحوم الحاج مصطفى على يد أزلام الإقطاعيين آنذاك (أيام رضاه شاه والد الشاه محمد رضا)، وسمى ابنه الأكبر (الشهيد مصطفى الخميني) على اسم والده، فهو ابن ذلك الشهيد الذي تربى على رفض الظلم ومجابهته، ووالد ذلك الشهيد العالم الذي اغتالته أيادي الظلم الغادر.

ومن خمين –مسقط رأس الإمام- انتقل (رحمه الله) إلى “أراك”، ودرس في حوزتها العلمية. ومنها انتقل إلى قم بمعية أستاذه ومربيه الخبير المرحوم آية الله عبد الكريم الحائري، وكان ذلك في عام 1340هـ، وكان الإمام (رحمه الله) في العشرين من عمره. وفي هذه الفترة عمد الأستاذ إلى تربية مجموعة من الطلاب اليافعين –ومنهم الإمام- إلى إقامة صرح الحوزة العلمية في قم، وقد درس الإمام العرفان الإسلامي (الفلسفة الإسلامية) على يد أستاذه الجدير المرحوم الحائري، وكان للأستاذ والمربي القدير أثره في شخصية التلميذ الشاب المتحمس. وكان لمدينة قم المقدسة الدور البارز والمؤثر في بناء شخصية الإمام، فله فيها قبل الإعلان عن نهضته العملاقة مرحلة طويلة من تحصيل العلم والتدريس وتهذيب النفس وتزكيتها.

وقد عُرف الإمام (رضوان الله عليه) بمجاهدة النفس وتزكيتها وتطهيرها، وكان شديدا مع نفسه، كما عرف بالزهد والقناعة والتواضع واحترام الآخرين وتقديرهم. وكان يعانق الطفل ويتحنن عليه ويداعبه ويضاحكه، ولم تمنعه مكانته القيادية أن يذهب إلى المطبخ بنفسه ويهيئ لنفسه كأسا من الشاي أو يحضر له كأسا من الماء أو علبة من ورق المحارم. وكان صاحب مسكن متواضع، وصاحب غرفة متواضعة، ولم تمنعه منزلته القيادية من أن يستقبل الجماهير في حسينية (حسينية جمران) عرفت بأنها عادية ومتواضعة. ولم يكن أبدا رجل القصور والبذخ والديكور والإسراف والإتلاف، وكان تفكيره ينصب على انتشال المستضعفين والفقراء والمحرومين من وطأة الفقر والفاقة وتحسين معايشهم. كان رجل الدعاء والصلاة والابتهال، وكان إنسانا معروفا بالنظام والتنظيم، إذا خطب وتحدث شد مستمعه وجمهوره واستقطبه، وكان ينتقي كلماته انتقاء مسؤولا، وكان إذا تكلم، تكلم من داخله وضميره بإخلاص وبروح مسؤولة. وكان الإخلاص سمة بارزة من سمات شخصيته المباركة، الإخلاص في الله، الإخلاص في خدمة الإنسان والقيم، وكلنا يعلم أن ما كان لله ينمو. وكان (رضوان الله عليه) بحق رجل العقل والفقه والعرفان والحكمة والأخلاق والعطاء والتضحية والمجاهدة والمسؤولية والنظام والقيادة والإرادة والتصميم.

أما عن العوامل التي تساعد على بناء الشخصية، فيمكن القول أن الشخصية مثلها مثل البناء، فأنت إذا كنت تريد أن تنشئ مبنىٌ، ماذا كنت تفعل؟. لا شك أنك في البداية تهيئ رأس المال، ثم تهيئ الأرض التي تريد أن تقيم المبنى عليها، ثم تطلب من المهندس أن يهيئ لك تصميما يروق لك، ثم تدرس الأرض الذي ستقيم عليها المبنى وتعدها لتحمل الضغط الذي سيأتي إليها من المبنى، ثم تهيئ البنّاء ومواد البناء وتبدأ من القواعد وتستمر، وأنت بحاجة إلى إشراف الخبير في البناء وهندسته. وهكذا الحال بالنسبة للشخصية، فبناؤها يجب أن يبدأ منذ الطفولة، حيث أن الطفولة كما سبق تبيانه في الإجابة على أسئلة بعض الإخوان هي مرحلة تأسيس الشخصية، ويجب أن تعطى اهتماما كبيرا.

وفي تصوري أن عوامل بناء الشخصية منها ما هي قواعد لا غنى عنها، ومنها ما هي عوامل مساعدة أو هي قواعد من الدرجة الثانية، بالإضافة إلى أن هناك أساليب وطرق لبناء الشخصية. فمن قواعد بناء الشخصية: العقل والمعرفة والأخلاق والدين (لأننا ننطلق من بناء شخصية إيجابية متدينة) والمحيط الأسري السليم، والمحيط الاجتماعي السليم، وتعزيز وبناء المهارات وخلق مهارات جديدة.

القاعدة الأولى: العقل، فبدون العقل لا يمكنك أن تبني شخصية، لأن العقل هو قوام شخصية الإنسان، وكما نعلم أن الأنبياء بعثهم الله إلى البشر لكي يثيروا فيهم دفائن العقول، ويصنعوا شخصياتهم ويبنوها. وإذا قلنا أن العقل هو قوام شخصية الإنسان، فمن واجبنا أن نستعمل هذا العقل ونستثمره، ونضع به الأشياء مواضعها، في مختلف أبعاد ونواحي حياتنا: المادية والمعنوية، على طريق بناء شخصية حكيمة وإيجابية وناجحة.

ولقد قيل لسيدنا الإمام علي بن أبي طالب (ع): صف لنا العاقل، فقال: هو الذي يضع الشيء في موضعه. فقيل له: صف لنا الجاهل، فقال: قد فعلت. ويعني قول الإمام أنه إذا كان العاقل هو الذي يضع الشيء موضعه، فالجاهل هو الذي لا يضع الشيء موضعه. ووضع الشيء في موضعه من القواعد الأساسية المترتبة على العقل واستعماله، ومن واجب الوالدين أن يربيا طفلهما منذ نعومة أظافره على هذه القاعدة، وأن ينميانها فيه، وبصورة تتلاءم مع عمره وإدراكه، لكي يكبر وتكبر مقدرته على استخدام هذه القاعدة في بناء شخصيته، خصوصا إذا علمنا بأنه بعد مرحلة الطفولة سيكون هو مسؤولا عن شخصيته وبنائها.

والقاعدة الثانية في بناء الشخصية هي المعرفة والعلم، ومنها الثقافة، وأن لا تقل عن الحد الأدنى. فبدون المعرفة والثقافة لا يمكن أن تصنع شخصية متنورة. من هنا في بناء شخصياتنا لا بد لنا أن نبحث عن المعرفة والثقافة، ونجد في تحصيلها أينما كانت، وكما قال رسولنا الكريم (ص): “اطلبوا العلم ولو في الصين”، وكما قال: “اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد”. أن يكون الواحد منا طالب معرفة وثقافة، وأن يخلق الرغبة والاندفاع في نفسه تجاه ذلك، وأن لا يمل أو يكسل في هذا السبيل. وأتصور أن هناك مفهوما خاطئا ربما لا زال موجودا بيننا عن الثقافة، فبعضنا ربما يتصور أن الثقافة ما هي إلا معرفة أكبر قدر ممكن من المعلومات، والحال أن الثقافة هي طرائق تفكير، تفيدنا في معالجة أمور حياتنا، وفي سلوكنا، وإن كانت تنطوي على معرفة أكبر قدر ممكن من المعرفة المعلومات. ومن هنا من أجل بناء شخصية ناجحة، لابد من تحبيب المعرفة والعلم للإنسان منذ طفولته وتشجيعه وتشويقه إلى البحث عنها واستخدام عقله في الانتفاع في ما هو جيد ونافع منها.

والقاعدة الثالثة هي الأخلاق أو القيم الأخلاقية، فبدون الأخلاق والقيم الأخلاقية لا يمكن لك أن تبني شخصية إيجابية. ويكفي في الأخلاق أنها عماد البقاء الإيجابي للإنسان في هذه الحياة، فإذا ذهبت ذهب الإنسان وإن كان حاضرا كجسد يأكل ويشرب ويلبس ويسكن وينام. وكما قال أحمد شوقي: (وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همُ ذهبت أخلاقهم، ذهبوا). فما قيمة الإنسان بدون قيم الأخلاق، وأي شخصية إيجابية يمكن له أن يبنيها في ما إذا تعرى عن القيم؟! ومن هنا واجب كل واحد منا أن ينشئ أولاده منذ صغرهم على القيم وعلى احترامها، لكي يكبرون ويكبر فيهم خلق احترام القيم، كما من واجبنا جميعا أن نعيش قيم الأخلاق واقعا. ولا ننسى أننا نعيش في عصر العولمة، وهذه العولمة تستهدف أخلاقنا وأخلاق أولادنا، وتريد أن تحولنا جميعا إلى بشر مستهلكين وتابعين لثقافات ليبرالية أجنبية ما أنزل الله بها من سلطان، تضيع فيها الحدود وقيم الأخلاق والفضيلة، وتسيطر فيها الشركات متعددة الجنسية على مقدرات البشر، حيث يزداد الفقير فقرا، وتزداد القلة من الأغنياء غنى. وتشير إحصاءات الأمم المتحدة أن الثروة العالمية تتكدس بيد 5/1 سكان الكرة الأرضية، بينما 5/4 منهم يعيشون عند خط الفقر أو تحته.

والقاعدة الرابعة: الدين. والدين كما نعلم جاء من الله من أجل مصلحة البشرية وهدايتها، وإضاءة طريقها، وهو رفيق العقل والعلم والأخلاق والداعي إليها. ومن هنا من أجل صناعة شخصية إيجابية ناجحة، ينبغي تربيتها على الدين والإيمان بالله، وأن تكون هذه التربية منذ الصغر. ومن الأمور المهمة في البناء الديني للشخصية أن نجعل الإنسان يشعر بقيمة الدين وضرورته في واقع الحياة عمليا. فمثلا إذا علمنا الطفل الصلاة، واجبنا أن نعلمه ماذا تعنيه الصلاة، وما هي معاني مكوناتها، ونجعله يعيشها معرفة وعملا، فكرا وسلوكا، لا أن نعلمه الصلاة على أنها لقلقة لسان أو حركات ميكانيكية تبدأ ثم تنتهي إلى لا شيء. وأن نتحاشى التعليم النظري البعيد عن واقع التطبيق. وفي اعتقادي أن هذه من الحالات التي أصيبت بها مجتمعاتنا الإسلامية، وينبغي لنا تجاوزها، وهي سيطرة التعليم النظري الديني دون الالتفات إلى تطبيق القيمة الدينية في الواقع، وهي كما نعلم حالة فصل، تقوم على قول بلا فعل، تنطوي على خطورة كبيرة.

والقاعدة الخامسة: المحيط الأسري السليم. وكل ما أريد قوله باختصار هنا أن المحيط الأسري السليم هو المناخ المناسب لبناء الشخصية الإيجابية الناجحة.

والقاعدة السادسة: المحيط الاجتماعي السليم، وهو -باختصار- المحيط الذي يساهم في بناء الشخصية الإيجابية من جانب، ويقيها آفات الانحراف والجنوح من جانب آخر. ومن المهم التأكيد هنا على الاستفادة من معطيات المحيط الاجتماعي على تنوعها واختلافها، واختيار الصداقات، اختيار الجديرين بالمصادقة، واجتناب غير الجديرين بها، في بناء الشخصية الإيجابية الناجحة.

والقاعدة السابعة: اكتشاف وتعزيز وتنمية المهارات والفنون واكتساب مهارات جديدة. في داخل كل إنسان استعدادات لمهارات إيجابية، وهذه المهارات ينبغي أن تكتشف، وتعزز وتنمى. فعلى سبيل المثال: إذا رأى الواحد منا أن لديه استعدادا جيدا في مهارة الإدارة، فيمكنه أن يعززها في نفسه، ويبحث عن المجال الإيجابي الذي يمكنه تطويرها واستخدامها فيه. وإذا رأى أن لديه استعداد لتنمية مهارة الكتابة، فعليه أن يعززها وينميها ليكتسب مهارة الكتابة. وفي أطفالنا استعدادات مهاراتية، بإمكاننا اكتشافها وتعزيزيها وتنميتها على طريق بناء شخصياته بنجاح. وعن اكتساب الصفات والمهارات يمكنني القول أنه مع الأخذ بعين الاعتبار الجانب الوراثي في المهارات، فأغلب الصفات والمهارات قبلة للاكتساب، بشرط تصميم الإنسان وإرادته وجده واجتهاده في عملية الاكتساب.
مع الاعتذار للإطالة.


.

بنقطة نظام الأخ العزيز قيصر وسؤال الأخ الحبيب أبو كوثر نكون قد شرعنا في محورنا الثاني، وهو “فن التعامل والحوار”، فن التعامل مع الناس والتحاور معهم.

بعد تحياتي الأخوية المخلصة إليك، سألتني عزيزي: ما هي الطرق المثلى للدخول في حوار يمكن للطرفين الأخذ بها قبل التحاور للخروج بنتيجة إيجابية، لا سيما ونحن نعيش في عصر التعصب للرأي الواحد، والتنازل عنه هو بمثابة خسارة في حرب ضروس، فما تعليقك؟

للحوار الإيجابي قواعده وطرقه وأساليبه. وعن القواعد سأكتفي بذكر أربع قواعد، رعاية للاختصار، وهي :
1- تقدير الطرف الآخر بإخلاص ودون ملق أو رياء. فلا ننسى أن الطرف الآخر الذي نتحاور معه هو إنسان مثلنا، ومن شأن هذا الإنسان أن يقدر ويحترم وتحفظ كرامته كما كرمه الله ((ولقد كرمنا بني آدم))، حتى وإن كان يختلف معنا في الرأي أو في المعتقد. وهذا الطرف قد يفيدنا وينفعنا. وإذا جاز التعبير، فإن التقدير يفعل في الطرف الآخر فعل السحر. وكما قال بعضهم: “كل إنسان ألقاه يفضلني في شيء واحد على الأقل، فأنا لهذا أتعلم منه”. ومن وجوه التقدير تعديد الصفات الطيبة في الشخص الذي نجري الحوار معه، وتقديم المديح له على ما يستحق المديح والثناء.

يقول (دايل كارنيجي) في كتابه (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس) عن أهمية تقدير الأبناء والأقارب، وتقدير الطرف الآخر بصورة عامة: “إننا نتعهد بالغذاء أجساد أبنائنا وذوينا، ولكننا قلما نطفئ جزءا يسيرا من ظمئهم إلى أن يكونوا شيئا مذكورا. وبينما نغدق عليهم الطعام والشراب ألوانا وأشكالا، ترانا نضن (أي نبخل) عليهم بكلمات التقدير والتشجيع الخلقية بأن تختزن في ذاكرتهم، وتتجاوب أصداؤها في صدورهم على مر السنين، نغما حلوا كتغريد البلابل”.

2- أهلية الموضوع للحوار. بمعنى أن يكون الموضوع يستحق أن يدخل المرء مع الطرف الأخر في حوار فيه، ومن هنا فالموضوعات التافهة التي يعلم المرء مسبقا أنه لا فائدة من الولوج فيها، ومثال ذلك الموضوعات التي تنطوي على الجدال العقيم، لا تستحق الدخول في الحوار. طبعا لا يعني هذا أن يستخف الواحد منا بالموضوعات التي يرغب الآخرون في التحاور معنا فيها، لأن الاستخفاف في حد ذاته هو أحد الأمور التي تقتل في الطرف الآخر الحماس والرغبة في الحوار والاستفادة منه.

3- حفظ الحوار لمبدأ الحب والمودة. ويعني ذلك أننا حين نتحاور مع آخرين قد نجد منهم الرأي الذي لا نرغب فيه أو لا نؤيده أو لا نتفق معه، وهذا أمر طبيعي إذ الاختلاف في الرأي والاجتهاد سنة من سنن الحياة، وهنا ينبغي أن نسيطر على مشاعرنا وانفعالاتنا في أن لا نرتب على هذا الاختلاف سخيمة أو حقدا أو غلا أو موقفا نفسيا على الطرف الآخر، بل ينبغي أن نجعل الحوار والتعدد في الرأي والاختلاف فيه مقربا لقلوبنا أكثر، لا طريقا للتنافر والتباغض والتباعد والتدابر والتخاصم. وكما قال الشاعر في شأن اختلافه في الرأي مع مودودته: (أنا شيعي وليلى أموية واختلاف الرأي لا يفسد للود قضية). ومن المهم الإشارة إلى أن هناك البعض لا يتحمل شيء اسمه الاختلاف في الرأي، فالاختلاف في الرأي لديه لا يعني سوى الذهاب في برود العلاقات وربما التنافر أو القطيعة أو الخصومة.

4- تجنب الجدال العقيم. والقاعدة العملية تقول: إن أفضل طريقة لكسب حوار عقيم هو أن تتجنبه. ويكون الحوار عقيما حينما يكون كل من الطرفين مصرا على رأيه وليس مستعدا لأن يناقشه الطرف الآخر فيه، فكلا الطرفان مقتنع برأيه فقط، ومنغلق عليه، وليس مستعدا لأن يستفيد من الطرف الآخر. إن الطرفين في هذا الجدال مثلهما مثل طرفين يتحاوران في البيضة والدجاجة، فأحدهما يقول البيضة أولا، والآخر يقول : الدجاجة أولا، فينتهيان إلى جدال في دور لا ينتهي. وكما يقول الشاعر: أنا بما عندي وأنت بما عندك راضٍ والكل مختلف).

أما عن طرق وأساليب الحوار الإيجابي، فهي متعددة وكثيرة، و مراعاة للاختصار، منها:

1- البدء بنقاط الاتفاق في موضوع الحوار. هناك أناس حينما يبدأون بالحوار مع طرف آخر، يبدأون بعبارات قاطعة من مثل: “ما تقوله ليس صحيحا أبدا”، “أختلف معك اختلافا كليا”، “لا أتفق معك في ما تقول”، “الصحيح خلاف ما تقول تماما”. إن من شأن هذه العبارات أو أمثالها أن تقتل رغبة الطرف الآخر في الحوار، وتجعله يتوقف، لأنهها قد تسبب له نوعا من الصدمة.

وينقل عن سقراط أن طريقته في الإقناع لم تكن تعتمد على القول لمحاوره بأنه مخطئ، بل كانت تعتمد على الحصول على أكبر قدر ممكن من الموافقات منه، وكان يعتمد على طرح أسئلة لا يملك محاوره سوى الإجابة عنها بنعم، ويظل سقراط يكسب الجوانب تلو الجوانب حتى ينظر مُناظره، آخر الأمر، فيرى أنه انتهى إلى مبدأ كان ينكره منذ دقائق خلت.

2- إذا كنت مخطئا فسلم بخطئك. تارة يكون الحوار في شأن أو موضوع يكون فيه أحد الطرفين مخطئا حقا. وهنا من الأفضل لهذا الطرف أن يسلم بخطئه ويعترف به، ويوفر على الطرف الآخر الجهد والتعب. والقاعدة تقول: الاعتراف بالخطأ فضيلة، وما وراء اللف والدوران إلا التحايل على الطرف الآخر ووجع الرأس. وتارة أخرى يكون موضوع الحوار منطويا على آراء من أي من الطرفين هي آراء غير صحيحة، وهنا إذا شعر طرف ما بأن رأيه غير صحيح، فينبغي له أن يقر بذلك ويريح نفسه ومحاوره.

وهناك من الناس في الحوار لا تقل له إذا كنت على خطأ فسلم بخطئك، فهو مستعد إلى أن يقيم الدنيا ولا يقعدها في سبيل أن يظهر رأيه بأنه هو الصحيح وهو يقر داخليا بأنه على خطأ. وهذا النوع من الأشخاص يكون الحوار معهم صعبا ومستعصيا، ويتحول إلى جدل عقيم، وهو تعصب أعمى، والتعصب الأعمى يقود صاحبه إلى الضياع.

3- كن بإخلاص مستمعا جيدا لمحاورك ومشجعا له على الكلام. الإصغاء يفعل الشيء الكثير في الطرف الآخر، فإذا أصغيت بصورة جيدة إلى ما يقوله محدثك أو محاورك، فأقل انطباع يتولد عنده أنك تمنحه التقدير والاهتمام، وتعطي أهمية لما يقول ويبدي من آراء وأفكار. وهذه الطريقة يمكن لكل منا أن يجربها، فالناس تقبل على من يهتم بهم ويقدرهم لا على من يتجاهلهم أو يتجاهل آراءهم. ولنعلم جميعا أن التقدير وحده هو الذي يمكنّنا من كسب ود مُحاورنا، ولن نسمع في يوم من الأيام أن شخصا كسب ود شخص آخر أو أقنعه برأيه بتجاهله له. إن أقل ما قد يولده التجاهل هو تولد موقف نفسي يفضي إلى عدم الاعتراف حتى بالآراء الصائبة.
4- أظهر موافقتك لمحاورك على ما تجده من آراء تتفق معه فيها. وهذه الموافقة ينبغي أن تكون مخلصة، لا من أجل التحايل على الطرف الآخر أو الضحك على ذقنه. ثم أن إظهار الموافقة يساعد على شد لحمة العلاقة بين المتحاورين واعتراف كل واحد منهما بصحة وأهمية آراء الطرف الآخر، وتقدير آرائه بصورة عامة.


.

الأخت الفاضلة بنت الأصايل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أهلا ومرحبا بكِِ معنا في الحوار، وشكرا لكِ على مداخلتك الطيبة، والتي جعلتني أسير مع سطورها وأتأمل في كلماتها وألجأ إلى التفكير وفق ما فهمت من سؤالكِ بحثا عن جواب لعله يكون لائقا ومفيدا.

ذكرتِ في بداية مداخلتك بما مضمونه أن الفن ليس هو أن تسبح السمكة مع التيار للوصول إلى هدفها، وإنما الفن أن تسبح السمكة عكس اتجاه التيار وتصل إلى الهدف المنشود. وطفقت أتساءل مع نفسي: ما هو الفن؟ الفن في اللغة هو الحسن والجمال والزينة والتلوين والمهارة والإبداع والتنوع. وأحسب أن المقصود من مقدمتك هذه أن مهارة الإنسان وخبرته لا تتبدى ولا تظهر حينما تكون الظروف سهلة ومواتية له، وإنما حينما تكون صعبة وقاسية وشديدة، حينها توضع إرادته على محك التحدي، ويبدأ عقله بالعمل المضاعف ليكشف عن مهارة وإبداع يلبي الحاجة التي يتطلبها أو يفرضها الظرف غير العادي، وكما تقول الكلمة الشهيرة: “الحاجة أم الاختراع”، وهناك من الحاجات ما هو وليد ظروف صعبة وشديدة وغير عادية كما نعلم جميعا، وفي مثل هذه الظروف تنكشف مهارة الإنسان وفنه. مع العلم بأن الحياة نفسها هي مزيج من اليسر والعسر والسهولة والصعوبة، والفن والمهارة يمكن أن تظهر في أمور سهلة ويسيرة كما تظهر في أمور صعبة ومعقدة.

كيف يتعامل الفرد مع مجتمعه بلغة اتحادية رغم اختلاف اللغة الوِحدوية؟ حسب تصوري –وحسب ما فهمت من سؤالك- أن الناس أمام هذه الحقيقة التي يثيرها السؤال ينقسمون إلى قسمين: أحدهما يفصل بين التخصص وبين النظرة الاتحادية إلى درجة يغيب معها أي نوع أو أي درجة من التوفيق. كمثال على ذلك: هناك فقهاء إذا كتبوا في الفقه كتبوا بلغة الفقه التي لا يفهمها إلا المتفقهون ويصعب على غيرهم فهمها، ومن يريد فهمها يحتاج إلى مدرس وأستاذ يشرح ويفسر له ما جاء فيها. ومثال على ذلك الرسائل العملية لأغلبية الفقهاء، وكتب الفقه المتخصصة، حيث يصعب على القارئ العادي أن يستوعب مصطلحاتها الفقهية. وهناك في،الطرف المقابل، فقهاء آخرون موفِّقون، فهم يكتبون بلغة متخصصة لا يفهمها إلا المتفقهون، وفي نفس الوقت لهم كتاباتهم الفقهية الميسرة التي يفهمها القارئون للغة والمتعلمون العاديون. ولاريب أن الأخيرين لهم قدرة على التحاور مع القاعدة أو الجمهور بصورة أوسع من الأوائل.

وأتصور أن من الأدوات التي نستطيع بها اجتياز قضية الاختلاف في اللغة مع الطرف الآخر ما يلي:

1- القدرة على الإقناع: فإذا كان الفرد منا -على سبيل المثال- عرفانيا، فأداته للتخاطب مع الماديين والتحاور معهم هو أن يحاول إقناعهم، لا أن يفرض عليهم رأيه ومعتقده. ولن يستطيع إقناعهم إلا إذا كان متوفرا على قدرة على الإقناع. والقدرة على الإقناع مهارة لا تتأتى لكل إنسان، لكنها مهارة قابلة للاكتساب على أية حال.

2- الجدال بالتي هي أحسن: ويقوم الجدال بالتي هي أحسن على تقديم الحجة والدليل في مقابل الحجة والدليل، بهدوء ومن دون تعصب أعمى. ولا ريب أن الجدال بالتي هي أحسن ملكة ينبغي لكل منا تعلمها وإتقانها.

3- تفهم حال الطرف الآخر. فإذا كان الطرف الآخر على سبيل المثال عاطفيا، فخليق بمحاوره العقلاني أن يساعده في الوصول إلى حالة العقلانية ما أمكنه ذلك، وأن يكون التفهم قائما على التقدير المخلص، وبعيدا عن السخرية والاستخفاف.

4- الإظهار للطرف الآخر بأن التغيير في الشخصية أمر ممكن. فإذا كان الواحد منا –على سبيل المثال- عفويا والطرف الآخر متكلفا، خليق بنا أن نساعده في الانتقال من التكلف إلى العفوية. ولا ننس أن التكلف في حد ذاته قد يكون مرحلة نحو الاتصاف بصفة أو حالة إيجابية ما. لكن مع هذا وكما يقول الأخلاقيون: ليس التخلق كالخُلُق. أي ليس من تخلق بخلق ما كمن كان الخلق طبعا وسجية فيه.

5- محاولة الجمع بين النظرية والعملية والانطلاق مع الطرف الآخر من خلال فنه ومهارته. فإذا كان أحدنا -على سبيل المثال- نظريا، وكان الطرف الآخر عمليا، خليق بالطرف الأول أن ينطلق في بيان أفكاره وآرائه من خلال الأفكار والآراء العملية لمحاوره العملي. هذا مع العلم بأننا مطالبون في كثير من الأشياء وفي كثير من الحالات أن نكون نظريين وعمليين في ذات الوقت ما أمكننا ذلك، بل في حالات لا يوجد لنا خيار في ذلك، كما هو الحال في الواجبات والفروض الدينية. فعلى صعيد الواجبات الشرعية، لا يكفي أن نؤمن ونعتقد، وإنما واجبنا أن نطبق ما نؤمن به ونعتقد. فعلى سبيل المثال: لا يكفي أن يؤمن الواحد منا بوجوب الصلاة، بل الوفاء بالواجب يتطلب أن يتحول ذلك الإيمان إلى ممارسة عملية. هذا من ناحية.

ومن ناحية أخرى، يتنوع البشر –إذا جاز التعبير- بين التوجه النظري، والتوجه العملي، والمزج أو التنوع بين التوجهين، واستعداداتهم الوراثية والمحيط الاجتماعي الذي يتربون فيه ويعيشون لها أثر في ذلك. فعلى سبيل المثال هناك أناس مبدعون وموفقون في الجانب النظري، ولديهم رغبة في هذا المجال، ومثال ذلك: الرغبة في الثقافة والتحصيل ومواصلة التقدم العلمي. وهناك في الطرف الآخر أناس يميلون إلى الدخول في العمل والحرف العملية ومزاولتها، ولهم رغبة أقل في التحصيل النظري. وهناك أناس جامعون بين التوجهين.

ويبدو لي أن تفاوت التوجهات بين البشر هو أمر يتطلبه التكامل في ما بينهم. وعلى مستوى المهارات، لا ينبغي لصاحب التوجه النظري أن يجبر صاحب التوجه العملي في أن يكون مثله، وكذلك العكس، لأن البشر ذوو قابليات متفاوتة، إلا في حالات. نعم يمكن لكل منهما أن يتناصح ويتشاور ويتحاور مع صاحبه (الآخر) في هذا الموضوع. فمثلا يمكن لمن يمتلك رغبة في التحصيل العلمي أن يشجع محاوره الذي لا يمتلك رغبة قوية في هذا المجال أن يكون ذا رغبة جيدة فيه.

ختاما، أرجو أن أكون قد وفقت في الإجابة، ومنكِ ومن الإخوة المشاركين أستفيد.


.

الأستاذ الفاضل “الميزان” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنتهز فرصة وجودك الطيبة في الديار المقدسة وقرب البيت الحرام لأقول لك ولجميع الإخوان والأصدقاء: حجا مبرورا وسعيا مشكورا، وأملي أن لا تنسوني من صالح دعواتكم ومخلص مناجاتكم. وفقكم الله لما يحب ويرضى، وأعادكم إلى دياركم برفقة السلامة والبهجة والسعادة.

وأرجو أن يعذرني الأخ العزيز قيصر في البدء بسؤالك وذلك لأن أيام الحج معدودة، ثم أعود للإجابة على سؤاله فيما بعد.

سألتني –عزيزي- عن كيفية الاستفادة من فريضة الحج بشكل خاص في تطوير مهارات الحوار في أنفسنا بما يخدم الحركة الحوارية وتطوير مستوى التخاطب القائم على احترام الآخرين.

كمقدمة للإجابة ينبغي القول أن الحج كما هو فرصة للعبادة هو في نفس الوقت فرصة للتلاقي والحوار والتفاعل المشترك بما يعزز الوحدة والاتحاد بين المسلمين. وكما ذكرت يا عزيزي أن الحجاج من كل الأجناس والأعراق يأتون من كل فج عميق ليلتقوا في نقطة مشتركة يجمعهم فيها أصل واحد هو عبادة الله والخضوع والإذعان لله وقصد مرضاته. ومن أجل الاستفادة من فريضة الحج في تطوير الحوار بين المسلمين يمكنني تسجيل النقاط التالية:

1- الإعداد لثقافة الحوار والتخاطب مع الآخرين. ويعني ذلك أن الحاج منا كما عليه أن يتعلم مناسك الحج وشعائره ومسائله، من الحسن أن يهيء نفسه ما استطاع –ولو بالحد الأدنى- لأن يكون شخصية قادرة على التخاطب وإجراء الحوار مع غيره من المسلمين الحجاج بصورة أخوية ومنفتحة. وهنا لدي اقتراح لكافة القائمين على شؤون قوافل الحج وحملاته والمهتمين بالإرشاد أن يعطوا لهذا الجانب اهتماما يليق به لكي يكون للحج أكبر قدر ممكن من النتائج والثمار الإيجابية على مستوى اللقاء والتخاطب مع المسلمين. وبعبارة أخرى، أن يجمعوا بين مساعدة الحاج على إتمام عبادة الحج، وبين مساعدته أو تأهيله فكريا وثقافيا للحوار مع إخوانه المسلمين من مختلف الأعراق والجنسيات والبلدان. وأن لا تقتصر ندوات الحج الإعدادية والإرشادية على تعليم أحكام الحج والتعامل مع المسائل اللوجستية، من وسائط نقل، ومأكل ومشرب ومسكن وغير ذلك.

2- تعزيز القواسم المشتركة بيننا كمسلمين. فالرب واحد، والنبي واحد، والقبلة واحدة، والهدف واحد، وتعزيز القواسم المشتركة يجب أن يكون في عمق تفكير أي مسلم، وفي صلب برنامج كل مؤسسة إسلامية مهما كان نوعها أو شكلها. فضلا على ذلك المبدأ الأصيل، نحن اليوم نعيش حالة خطرة جدا من تكالب الأعداء علينا، بغية تفكيكنا وتمزيقنا طرائق قددا، وفرض الحلول الجائرة علينا، بغية جعلنا أمة ضعيفة وتابعة، لا حول لها ولا قوة. وينبغي لكل واحد منا أن يعيش بنفسه تلك القواسم المشتركة، ويعززها في داخله، والبدء بالنفس قاعدة أولية في التغيير كما نعلم جميعا، والباري –عز وجل- يقول في كتابه المجيد: ((لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)).

3- الانفتاح على الآخرين. ومن عظمة ديننا الحنيف أنه تحترم فيه الألوان والقوميات والأعراق والجنسيات ضمن مبدأ واحد هو عبادة الله وتقواه، فلا فضل لعربي على أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، والقاعدة هي: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم)). ينبغي للمسلم الحاج أن يكون منفتحا على غيره من الحجاج، وأن يبذل ما في وسعه من أجل تعزيز القواسم المشتركة معهم، ومستخدما لثقافة الحوار التي أسسها في نفسه، ومساهما في صنع الثقافة الواحدة التي تتمسك بالإسلام كدين وإطار واسع وتقف مساندة للمسلمين أينما كانوا في قضاياهم وتقاوم كل الثقافات والمشاريع الهادفة إلى إضعاف المسلمين أوالنيل منهم.

4- الابتعاد عن التعصب المذهبي. ومن الأمور الأولية التي ينبغي لكل منا أن يدركها أن التعدد المذهبي واقع قائم لا يمكن تجاوزه. ومن هنا فاحترام التعدد المذهبي من أول قواعد الحوار والتخاطب الإيجابي بين المسلمين. هناك أناس في الحوار والتخاطب –مع الأسف- يقدمون الاختلاف المذهبي على كل شيء، بل حتى حينما يتحاورون مع غيرهم من معتنقي المذاهب الإسلامية الأخرى تجدهم يحملون موقفا نفسيا يفوت عليهم فرصة التخاطب الإيجابي، وهذا من مساوئنا كمسلمين. ينبغي أن نتخاطب ونتحاور مع معتنقي مختلف المذاهب على قدم المساواة، فهم إخوة لنا في الدين ونظراء لنا في الخلق، وبالتالي يجب في الحوار والتخاطب أن نذيب الحواجز النفسية التي قد يرتبها بعضنا على الفوارق المذهبية.

5-صناعة العلاقات والصداقات مع المسلمين. وما أجمل الإنسان حينما تكون له صداقات في كل بلد من بلدان العالم، وما أجمل المسلم –بصورة خاصة- حينما تكون له علاقات وصداقات مع المسلمين في مختلف بلدان العالم ومن مختلف الأعراق والأجناس. وهذه من الثمار الإيجابية للحج، إنه يعرفنا ببعضنا البعض ويجعلنا متماسكين ومتلاحمين مع كوننا من بلدان مختلفة ومن جنسيات وأعراق مختلفة. ومن الجدير التذكير بأن البعض منا يسافر إلى الحج وهو يحمل معه بعض الحواجز في العلاقات مع غيره من الجنسيات و ربما الأعراق، وهذا مما يجب تغييره في أنفسنا، لأن من مقدمات الحج حسب تصوري تخليص النفس من الأغلال والأصرار النفسية تجاه الآخرين. كذلك من غير الصحيح أن يرتب الواحد منا على أحداث قليلة تعميمات مطلقة في ما يتعلق بالتعامل والحوار مع الجنسيات والأعراق الأخرى. فكلنا مسلمون، ولكل منا أخطاؤه القابلة للتصحيح، وربما نعتنا أنفسنا بأننا أفضل من الغير، في حين أنه أفضل منا في حقيقة الحال. ولا ننسى أن الاعتداد بالنفس والانحياز إليها قد يمنعها من الاعتراف بأخطائها والتوجه إلى تصحيحها.

6- تقييم أو تقويم تجربتنا في الحوار والتخاطب مع المسلمين بعد كل موسم حج. وهذا يتيح لنا تعزيز النقاط الإٌيجابية في الحوار والتخاطب، والتخلص من غير الإيجاب في هذا السبيل، وفتح الباب أمام طرائق ووسائل إيجابية أخرى تعيننا في تأصيل وتعميق ونشر وتعميم ثقافة التخاطب والحوار مع المسلمين، فالعاقل والسعيد والناجح من وعظته التجارب.

مع أطيب تحياتي وتبريكاتي بعيد الأضحى السعيد.

عودة إلى أسئلة الأخ العزيز قيصر، مع الشكر الجزيل لك على الأسئلة القيّمة. وقبل الإجابة أنتهز هذه الفرصة الجميلة لأهنئك وجميع الإخوة والأخوات إدارة وأعضاء وزائري منتديات شبكة مهزة بعيد الأضحى السعيد، حيث الليلة هي ليلة العيد السعيد، أعاده الله علينا جميعا وعلى الأمة الإسلامية باليمن والخير والبركات والقوة والعزة والانتصار.

سألتني –عزيزي- عن الفرق بين الحوار والجدال، وعن التمسك بالرأي –في محاورة الزملاء- مع كونه خطأ، هل هو من الاستبداد الفكري، وهل ثمة علاقة بين الحوار الجيد وفن الاستماع؟

بالنسبة للسؤال الأول، قلت في معرض مقدمتك له أن الحوار والجدال يشتركان في أنهما حديث أو مناقشة بين طرفين، وهذا متفق عليه. والحوار قد يكون جدالا كما أن الجدال قد يكون جوارا أيضا. لكن الشائع في ما بيننا أن المقصود من الحوار بصورت المطلقة هو الحوار الإيجابي الهادئ الذي يوصل إلى نتيجة إيجابية، والجدال بصورته المطلقة هو الجدال الذي ينطوي على تعصب وعدم تفهم لآراء الطرف الآخر وأفكاره. لكننا مع هذا نلجأ إلى التقييد والتخصيص، فنصف حوارا ما بأنه إيجابي أو بناء، ونصف جدالا ما بأنه جدال بالتي هي أحسن، وآخر بأنه جدال عقيم.

ويمكنني القول أن كل حوار إيجابي قائم على العلم والمعرفة والحق والهدى، وقاصد لإقناع الطرف الآخر بهدوء وتقدير واحترام، هو جدال ينضوي تحت مفهوم الجدال بالتي هي أحسن. كما أن كل جدال قائم على نفس الأمور المتقدمة، وقاصد لإقناع الطرف الآخر، هو حوار، وحوار إيجابي تحديدا. وبالحوار الإيجابي والجدال بالتي هي أحسن تتلاقح الأراء والأفكار وتتقوى، وينتفع كل طرف من الطرف الذي يشاركه الحوار أو الجدال، ويتم الوصل إلى نتيجة إيجابية. ومن أسوأ أنوع الجدال التي عالجها القرآن الحكيم : الجدال على أساس الباطل بغية إدحاض الحق، والجدال القائم على الجهل والضلال، وعموم الجدال العقيم الذي هو جدال لذات الجدال، أو هو القائم على العصبية والتعصب الأعمى.

وبالنسبة لسؤالك الثاني، يمكنني القول أن التمسك بالرأي ليس سيئا بصورة مطلقة، وخصوصا حينما يكون في صورة فنية وحسنة، ففي أحيان يكون التمسك بالرأي أمرا حسنا بل وربما مطلوبا، خصوصا حينما يُحتمل في تعصب الطرف الآخر لرأيه الخاطئ أن يقود إلى نتيجة سلبية غير عادية أو غير جزئية، كمناقضة قيمة أخلاقية، ولا شك أن هذه النتائج المحتملة ينبغي أن تقدر بقدرها جيدا، هذا من جانب. ومن جانب ثان، ليس كل تمسك بالرأي الصائب هو نوع من الاستبداد، خصوصا حينما يكون التمسك منطويا على حفاظ على قيمة أخلاقية، أو على أمر إيجابي بصورة عامة، مع العلم بأن الصوابية في الآراء قد تكون أمرا نسبيا، وربما تكمل الآراء بعضها بعضا، والاستبداد يكون حينما يفرض طرف ما رأيه على الآراء الأخرى بصورة لا يعبأ معها بآراء الآخرين ونظراتهم، بل ربما يستهين بها ويشجبها ولا يعطيها أدنى تقدير أو اهتمام، وهذا مما يميز التمسك بالرأي الحسن عن الاستبداد. وأسوا الاستبداد في الرأي أن يكون في رأي باطل، ومثال هذا أن يستبد طرف ما برأيه القائل بأن التدخين عادة مفيدة للإنسان وفي مصلحته (وهو رأي قد يقول به بعض الجهلاء المتعصبون)، في حين أن الرأي الشائع والمسلم به هو خلاف ذلك. ومثال ذلك من الحياة السياسية أن يستبد حاكم ما برأيه القائم على التفرد وتقييد الحريات، ويضرب بعرض الحائط الرأي الآخر (وهو رأي الأغلبية الشعبية) المطالب بالشورى (الديموقراطية) والتمثيل الشعبي والمشاركة الشعبية وإطلاق الحريات.

أما عن سؤالك الثالث، فالواضح أن ثمة علاقة وطيدة بين الاستماع والحوار الجيد. بل يمكنني القول أن الاستماع الجيد يشكل قاعدة هامة في صناعة الحوار الجيد والإيجابي وإدارته. ومن هنا يجدر بكل واحد منا إذا أراد أن يصنع من نفسه محاورا إيجابيا أن يتقن فن ومهارة الاستماع والإصغاء للطرف الآخر. إن الاستماع والإصغاء الجيد للطرف الآخر لا يعين في إدارة الحوار وكسبه فحسب، بل ويدل على تقدير المحاور لمن يحاوره، وما من شك أن تقدير الطرف الآخر – وبإخلاص- قاعدة أولية في التعامل مع الآخرين والتحاور معهم.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن البعض منا يريد دائما أن يكون متكلما جيدا، في حين لا يهمه أن يكون مستمعا جيدا لمحدثه أو محاوره، وهذا ليس بصحيح. والقاعدة في الحوار أن يكون الواحد منا متجدثا جيدا ومستمعا جيدا في ذات الوقت، بل في أحيان يتطلب الوضع منا أن نكون مستمعين جيدين أكثر من متكلمين. ومن الأمور الفنية في الحوار أن تتيح لمحدثك التحدث في موضوعه أو عن نفسه بكفاية وحرية، وأن تبتعد عن مقاطعته ما أمكنك ذلك، وتعتذر له بلباقة وأدب حين تحتاج إلى المقاطعة أو حينما تكون المقاطعة لازمة.


.

عزيزي نور العاشقين، أهنئك بحلول عيد الأضحى السعيد أعاده الله علينا جميعا بالخير واليمن والبركات والعزة والكرامة، وأرجو الله أن يوفقك لكل خير.

المعذرة، لك عزيزي، لقد وجدت سؤاليك، وكنت أحسب أنهما غير موجودين.
في ما يخص سؤالك الأول حول أن علماء النفس يتفقون على أن نوم الإخوة الكثيرين في حجرة واحدة يسبب عدم الثقة بالنفس فيهم. في الحقيقة لم أطلع على هذا، ولا يمكنني أن أنكر ذلك دون تأمل. وقد يكون هناك تجارب ميدانية أجريت في هذا السبيل، وتم التوصل فيها إلى نتائج.

أما عن سؤالك الثاني، حول أن الشاب في هذا الزمن يعيش صراعا شديدا بين العقل والشهوة، ويرى المغريات في كل مكان، في الطريق، والبيت وحتى في النفس، وكيفية المحافظة على النفس وإبعادها عن معصية الله. أتفق معك وبكل تأكيد أن المغريات كثيرة وشديدة، وعلى الإنسان أن يتسلح جهد ما يستطيع بالإرادة والمغالبة، وأن يجانب بقصارى جهده المحيطات والأجواء والمواقع التي تساعد على إثارة الغرائز والشهوات، وأن ينهمك في مجالات إبداعية تساعده في التخفيف من وطأة تلك الإغراءات، ومن أمثلة تلك المجالات: الهوايات النافعة، والرغبات المفيدة، مثل القراءة، والكتابة، والرسم، والخط، وغيرها. وكقاعدة، كل شيء ينهمك فيه الإنسان يمكن أن يستولي على تفكيره ويأخذ من وقته الكثير، فإذا استولى الإبداع والرغبة فيه على فكر الإنسان وانهمك فيه فإن هذا كفيل بأن يكون عاملا مساعدا قويا له في مغالبة هوى النفس والتحكم في شهواتها وغرائزها. وكلما انهمك الإنسان في الإبداع والخلاقية كلما كان أكثر قربا من بارئه جل وعلا.
مع مخلص تحياتي إليك.


.

الأخ الفاضل “العصر”

تحيات طيبة أقدمها لكم، وتهانيّ إليكم بالعيد السعيد، عيد الأضحى المبارك، أعاده الله علينا وعلى المسلمين جميعا بالخير واليمن والبركات والعزة والمجد والمسرات، وكل عام وأنتم بخير، وشكرا جزيلا على مشاعركم النبيلة والطيبة، ويسعدني أن أكون في خدمتكم، ومنكم ومن جميع الإخوة والأخوات أستفيد.

سألتني –عزيزي- عن الحركة الحداثية وبروز رموزها في الساحة، حيث نشب عنها تجاذبات واتهامات بين أنصارها وبين الإسلاميين. فالحداثيون يعلنون بأن الخطاب الديني جامد ومتخلف وفيه الكثير من التلفيق وغير الصحيح، ويتهمون الإسلاميين بأنهم السبب وراء عزلتهم عن المجتمع، وفي المقابل يرى الإسلاميون أن هؤلاء الحداثيين يعيشون حالة من النفاق الثقافي، ويجوز تكفيرهم وإقصاؤهم من المجتمع. فكيف نستطيع استيعاب هذا الفكر وأصحابه؟ وما هو الأسلوب الأصح في التحاور مع من يشكك في ثوابتنا وعقيدتنا؟ وفي حال ثبوت اليقين، هل الصد عنهم ومحاورتهم بالغلظة هي الأنسب؟

تمهيدا للإجابة على أسئلتك، يمكنني القول أن أفضل صورة للعلاقة بين الإسلاميين والحداثيين بأن تأخذ طابع الحوار الإيجابي والجدال بالتي هي أحسن، وأنا أدرك تماما أن من الحداثيين من هو على غير استعداد للتحاور في شأن الإسلام والإسلاميين والخطاب الديني، وذلك بحكم النظرة المطلقة، وكذلك من الإسلاميين من هم على غير استعداد للتحاور مع الحداثيين. وبرأيي أن الإسلاميين لا ينبغي أن يعموا أبصارهم عن أراء وأفكار الحداثيين ومناقشتها وتمحيصها، بل عليهم أن ينفتحوا عليها، وهذا أفضل لهم ولمجتمعاتهم، كما لا ينبغي للحداثيين كذلك أن ينطلقوا من منطلق عدائي للفكر الإسلامي والثقافة الإسلامية، ويوصلوا العلاقة بينهم وبين الإسلاميين إلى حالة الإقصاء والصدام والتنازع. لا شك أن ثمة إيجابيات في الحركة الحداثية منبثقة عن الفكر والثقافة واستعمال العقل، وهناك مشتركات بين الحداثيين وبين الإسلاميين، وهذه ينبغي أن تعزز ويستفاد منها عن طريق الانفتاح وتفعيل الحوار والنأي عن الانغلاق. وفي الطرف المقابل هناك حدود لا ينبغي للحداثيين تجاوزها في تعاملهم مع فكر وثقافة الإسلاميين، وما هو حسن وصالح من خطابهم، وخصوصا في ما يتعلق بعقائدهم وأصولهم الثابتة، بأن تحترم تلك العقائد والأصول. وفي تصوري أن التعصب الأعمى من كل من الطرفين لأفكاره دون إتاحة الفرصة للحوار الإيجابي والنقد البناء، قد يفوت الفرصة على الفكرة الصحيحة من أي منهما لكي تأخذ طريقها في التأثير والتفاعل في المجتمع.

إذا كان الحداثيون يرون أن الخطاب الديني جامد ومتخلف وفيه الكثير من التلفيق وغير الصحيح، فلهم أن يروا ذلك انطلاقا من مبدأ حرية الفكر والرأي والمعتقد، شريطة أن يكون ذلك الرأي قائم على احترام عقيدة الآخر، وضمن الحدود السلمية، وقائم على قاعدة الحوار البناء، والجدال بالتي هي أحسن، وغير قائم على أساس الإقصاء والعداء والموقف السلبي المسبق أو الهادف إلى الاستخفاف والتسقيط. إن وسيلة الإقصاء في التعامل مع التنوع الفكري والثقافي في المجتمع الواحد أو في الساحة الواحدة من شأنها أن تؤدي إلى حالة من الصدام، وهذه الحالة من الصدام إذا لم يتم التحكم فيها بحكمة وعقلانية قد تجر إلى حواجز كثيفة وربما إلى عنف لا طائل من ورائه، وتترتب عليه آثار سلبية خطيرة وكثيرة. في حين أن الأفضل هو تعزيز المشتركات، وجعل كل وجوه الاختلاف ضمن إطار العلاقة السلمية. وتتجلى أهمية خطاب تعزيز القواسم المشتركة بصورة أكثر حينما تفتح الأمة عينيها لتجد نفسها تحت تهديد خطر جسيم يهددها بأكملها، دون تفريق بين إسلامي وحداثي.

من ناحية أخرى، هناك من الإسلاميين من يحتكر الفكر والثقافة الإسلامية لنفسه، وربما لا ينظر إلى الاجتهادات الأخرى بما فيها الحداثية على أنها هباء لا قيمة من ورائه فحسب، بل ربما يتصور نفسه الوحيد الناطق باسم الإسلام، وأن تياره هو الوحيد المعبر والناطق عن الإسلام، وما سواه من التيارات الإسلامية ليس كذلك. وبهذه النظرة الضيقة يحمل الخطاب الإسلامي المعين للتيار الإسلامي المعين تبعاته على الإسلام، ويغلق الباب أمام أي حوار مع أي طرف آخر، كتيار الحداثة، في حين أن الخطاب الإسلامي –أي خطاب- هو ليس ببعيد عن دائرة اجتهاد الإنسان، وهذا الاجتهاد قابل لأن يكون حاملا للصواب، وقابل لأن يكون حاملا للخطأ.

وإذا جاز التعبير، التجديد في الفكر الديني القائم على أساس احترام ورعاية الأصول هو ليس أمرا مرفوضا، بل هو أمر واقع عمليا ويمارسه أهل الاختصاص، وهذا التباين في الاجتهادات أو إعادة النظر في ما يلزم إعادة النظر فيه بما يتناسب وأحوال العصر والزمن هو في حقيقته تجديد. ويمكنني القول أن بعض الخطابات الدينية تتصف بالتخلف لا لأن الإسلام دين التخلف، بل هو دين التقدم والرقي بلا جدال في ذلك، بل لأن أصحاب هذه الخطابات يقيمون نظرتهم للدين على أساس نظرة متخلفة أو فهم متخلف للإسلام، ويدخل التطرف -باسم الإسلام- ضمن هذه النظرة.

وحسب تصوري، وبصرف النظر عن مدى قناعة الحداثيين بصحة الفكر الديني أو الخطاب الديني أو عدم صحته، فالطريقة الإقصائية غير العقلانية وغير المنفتحة التي ينتهجها بعض الإسلاميين في التعامل مع تيار الحداثة ساعدت في بروز ردة فعل شديدة من الحداثيين لوصف الخطاب الديني بالجمود والتخلف أو الانطواء على تلفيق أو على الكثير من غير الصحيح، أو لوصف الإسلاميين بأنهم السبب في عزلة الحداثيين عن المجتمع. مع العلم كذلك بأن من تراثنا الديني –إذا جاز التعبير- ما يحتاج إلى حركة غربلة، كان من الأولى أن تتم منذ زمن بعيد. ومن هنا، لا يكفي أن نشجب الفكر الآخر –إذا اختلفنا معه- أو نصفه بالنفاق، اعتمادا على أننا إسلاميون وحسب، بل لابد من مناقشته ومحاورته في آرائه وأفكاره انطلاقا من الإسلام نفسه، وله بعد ذلك الخيار في أن يقتنع أو لا يقتنع بفكرنا، مع العلم بأن من الحداثيين من يتصف بالنفاق الثقافي فعلا. أما أن نرفض أونشجب الفكر الأخر بصورة مطلقة ودون أن نمحص مكوناته بعقل وروية واقتدار، ثم ننتظر من أصحاب هذا الفكر التسليم وحسب، أو أن نفرض على الآخرين فكرا معينا من دون أن نتيح لهم فرصة الاقتناع، فلا يبدو أنه أسلوب حسن أو مفضل.

ويبدو لي أن الأسلوب الأفضل في التعامل مع الحداثيين هو ليس تكفيرهم أو إقصاؤهم من المجتمع، بل التأكيد على استمرارية الحوار وتعزيز المشتركات-التي لا تعدم- معهم، خصوصا وأنهم جزء من المجتمع ومن الأمة. كما أن الصد والتوسل بالغلظة في الحوار لا يبدو أنه الأسلوب الأفضل مطلقا في التعامل مع كل ما هو حداثي، أو مع ما هو متطرف من الحداثة، والأمور تقدر بقدرها. مع العلم بأن الغلظة في الحوار هو أمر فيه تفصيل.


.

مرحبا بكِ مرة أخرى أختي الفاضلة “نعناعة”، وكل عام وأنت بخير.

سألتيني عن مدى تأثير التحية بتحية الإسلام قبل المباشرة في الحوار انطلاقا من قول الإمام الصادق (ع): “السلام قبل الكلام”، وعن فتاة في مقتبل العمر تلاقت مع امرأة تكبرها بسنين عدة، ليس هناك عامل مشترك بينهما في الأفكار، لكن لابد للأولى من التحدث مع الأخيرة، فكيف تستطيع التعامل معها؟

إجابة على سؤالك الأول، يخلق بي القول أن من سعادتنا كمسلمين أن الله سبحانه وتعالى منّ علينا بدين حنيف من مبادئه الأساسية أنه دين السلم والسلام ودين الرفق والوئام، ومن واجبنا أن نقدر هذه النعمة الإلهية العظيمة ونحمد بارئنا –جل وعلا- ونشكره. وما أجمل الإنسان حين يلتقي بأخيه في الدين أو بنظيره في الخلق ويبدأ لقاءه معه بشعار السلام. إنه حقا شعار في منتهى الجمال لأنه يحمل فوق ظهره وبين حروفه قيمة خلقية سامية هي قيمة السلم والسلام والصلح والرفق والتسامح. وكم من علاقات اجتماعية بُدئت وآتت ثمارها الإيجابية انطلاقا من المبادرة بالسلام.

ومن مزايا إبداء السلام وإفشائه أنه يترك شعورا طيبا في نفس الطرف الآخر، لأن فيه تقدير للطرف الآخر وإشعار له بالأهمية، وإن كان في حد ذاته من المندوبات أو المستحبات، كما أن السلام يساعد على إذابة الأغلال والأصرار النفسية التي قد تنشأ بين طرفين، ويبقي لحالة الصلح مساحة في نفس مبدي السلام، هذه الحالة التي لا يشك في أثرها في ترك الخصومة والقطيعة والميل نحو إعادة المياه إلى مجاريها والتصافي والصلح. ومن حيث هذا الشعور، ليقارن الواحد منا حالته أو حالة غيره حينما يلاقي طرفا آخر ويبدره بالسلام أو حينما يلزم الصمت تجاهه دون سلام. والسلام يمهد بطريقة لطيفة للقاء ومن ثم الحوار، كما أن من مزاياه أنه يبعث على شعور الطرف الآخر بأن من يبدي السلام له يقدره ويعطيه اهتماما، ويشاركه الشعور بالأخوة في الدين أو في الإنسانية، ونحن نعلم جميعا أن التواضع للآخرين وإظهار الاهتمام المخلص بهم من أهم قواعد فن التعامل مع الناس.

لا أدري لماذا البعض منا يبخل حتى بالسلام، بينما السلام كلمة سهلة ويسيرة وجميلة لا تكلف شيئا، لكن مفعولها كبير ومؤثر وجميل، وديننا الحنيف يقرر أن البخيل هو من بخل بالسلام. إن السلام مثله مثل الوردة الجميلة العطرة التي لا يزيد حجمها عن قبضة يد، لكنها تفعل الشيء الكثير فينا وفي نفوس الآخرين وقلوبهم، ألسنا جميعا نحب الورد ونقبل عليه؟ هناك منا من لا يمارس إبداء السلام ليس بخلا منه، بل ربما جفاء، أو غلظة أو تعاليا، وهناك من قد يتصور أن إبداء السلام يوحي للآخر بضعف شخصية مبدي السلام، أو ربما يستغل عدم إبداء السلام في فرض حالة معينة أو موقف معين عليه، وهذا ليس من خلق السلام في شيء. السلام تعبير عن حالة تواضع وتسامح يبديها المرء لمن يلقاه، وأي أثر إيجابي يتركه تواضعه وتسامحه في من يلقاه! هناك منا قد يتصور أن في التواضع للآخرين ضعف ووهن، ولكن الحقيقة أن فيه قوة وعزة، والذلة التي قصدها القرآن الكريم في قوله تعالى: ((أذلة على المؤمنين)) هي الذلة الإيجابية المعززة للإخوة وحالة التسامح والوئام والرحمة والتراحم بين الإخوة في الدين. إنها قوة وعزة وليست ضعفا.

ما أجملنا حين نبدر أو نبادر الآخرين بالسلام، وحين نفتتح لقاءاتنا بشعاره، وما أجمل حواراتنا حينما نعطرها بعبق أريجه! السلام بكلمة: هو مفتاح العلاقات الاجتماعية، ومقدمة الحوار الإنساني الهادف، وشعار الأخوة والتسامح وتقدير الآخرين والتواضع لهم وإشعارهم بالأهمية.

وفي ما يخص سؤالك الثاني، يمكنني القول أن فرقا في السن قدره عدة سنين بين فتاة وامرأة، واختلافا في الأفكار قد لا يكونا مانعين من الحوار، وإن كان فيه شيء من العسر أو الصعوبة. فمع ذلك، هناك هامش من الحوار يمكن للمرء أن يسلكه، ولا شك أن قدرة المرء على الحوار تساعده في ذلك، مع العلم بأن المقلين في الكلام إلى درجة غلبة السكوت قد لا يكون من السهل عليهم الدخول في الحوار في مثل هذه الحالات، وقد يصعب عليهم ذلك، ولكن يمكنهم أن يحاولوا، فمن حاول اكتسب. وعموما فالمشتركات لا تعدم، وخصوصا في الآراء والأفكار، ولا ننسى أن تقدير فارق العمر أمر مطلوب، وكذلك مخاطبة للطرف الآخر بما يتناسب ومستوى ثقافته. ولنا في شخصيات الأنبياء عليهم السلام خير مثال إذ علمونا أنهم أمروا بمخاطبة الناس على قدر عقولهم وثقافاتهم.

ولعل من المداخل الجيدة للحوار في مثل هذه الحالات والتي تلاقي استحسانا من الطرف الآخر ولها دور في التأثير والكسب: أن يوجه الحديث عن اهتمامات الشخص الآخر الإيجابية وعما يحبه من أمور إيجابية دون الانقياد إلى ما هو غير إيجابي. لينظر الواحد منا ماذا يتوفر عليه الطرف الآخر من اهتمامات إيجابية، ولا يخلو الناس من إيجاب بطبيعة الحال، وليحاول الدخول إليه من خلال هذه المداخل بإخلاص ودون ملق أو رياء أو كلفة، وإن لم يكن فالإصغاء والاستماع إليه بتقدير واهتمام، والاكتفاء بمشاركة أو تعليقات قصيرة ومفيدة.

وهنا تحضرني قصة يوردها دايل كارنيجي في كتابه (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس)، عن أهمية الحديث في اهتمامات الطرف الآخر وعما يحبه من إيجاب، يقول: تعلم وليم ليون فيلبس أستاذ الأدب السابق في جامعة ييل هذا الدرس في وقت مبكر من حياته، فعندما كان في الثامنة من عمره اعتاد أن يمضي عطلة نهاية الأسبوع في ضيافة عمته في مدينة أخرى. وذات مساء حضر لزيارة عمته رجل في منتصف العمر، لم يكن رآه من قبل، وكان وليم ليون في ذلك الحين شغوفا بالقوارب، وما أن علم الزائر بذلك حتى صب حديثه مع وليم ليون عن القوارب وكل ما يتصل بها.

وقد ترك حديث الزائر في نفس وليم ليون أحسن الأثر وأبقاه، فلما انصرف الزائر سأل وليم عمته عن هوية الزائر وما سبب اهتمامه بالقوارب. فأنبأته عمته بأنه محامٍ، وأنه لم يهو القوارب في يوم من الأيام. فسألها لماذا إذن صب حديثه كله عن القوارب؟ فقالت له: لأنه رجل لطيف الشمائل، رأى أنك مهتم بالقوارب فتكلم عن الشيء الذي يهمك أكثر من سواه.

أضرع إلى الله تعالى من كل قلبي أن يشافيك ويعافيك يا أبا حسن، أيها الرجل الطيب، المتواضع، المثقف، صاحب الأخلاق الرفيعة، والشمائل الطيبة، والروح الشابة.


.

شكرا لك أخي العزيز “قيصر” على مقدمتك الطيبة التي افتتحت بها محورنا الثالث في هذا الحوار، وهو “فن الكتابة”.

ويجدر بي ابتداء أن أؤكد على ما ذكرته بأن الكلمة المكتوبة –كما المقروءة بالخطابة- مسؤولية، فرب كلمة أحيت أمة، وربما كلمة أماتت أمة، الأمر الذي يؤكد مسؤولية الكتاب وصناع الكلمة في هذا السبيل.

كما أود أن أضيف إلى مقدمتك أمرا آخر أرى أنه على مستوى كبير من الأهمية، ويحتاج منا إلى توجه واهتمام مركزين، وهو ضعف التوجه الكتابي في قريتنا على الأقل، وهو نتيجة طبيعية لضعف الإحساس بأهمية الثقافة ودورها في بناء المجتمع ونموه. أقول هذا ليس من باب النقد الزائد الذي لا داعي له، ولا من باب السلبية والتشاؤم في الرؤية، بل من باب التشجيع في هذا المجال، وهو مجال الكتابة، لأنه كم يسعد المرء أن يرى في قريته –وعموم مجتمعه- أصحاب أقلام بناءة ومؤثرة، يفيدون أبناء مجتمعهم القروي وعامة مجتمع بلادهم وأمتهم. فعلى الرغم من أن في أوساطنا كفاءات ممتازة في اللغة العربية وفي الاطلاع العام وبأعداد غير قليلة، إلا أنه نادرا ما تجد من بيننا كاتبا يرغب في التأليف أو قصاصا أو روائيا أو صحفيا يكتب إلى الصحف والمجلات. أين هي الرغبة الجادة؟ وأين هي الاستمرارية التي هي العامل الرئيس في تحقق هذه الرغبة؟ إنها حقا إشكالية قديمة وكبيرة ينبغي أن تنال منا التوجه الجاد. وأؤكد هنا أن اهتمامنا في هذا المجال ونمونا وتطورنا فيه له أثر بالغ في تطور مجتمعنا القروي في جميع المجالات، وعلى مختلف المستويات.

والمؤسف حقا أننا على استعداد لأن ننفق آلاف الدنانير في كل عام على الأكل والطعام، لكننا غير مستعدين لأن ننفق حتى بعض الجهد من أجل صناعة وعي ثقافي يحافظ على أجيالنا الجديدة. وما من شك أن بناء الأقلام والمهارات الكتابية لها دورها المؤثر في صناعة الوعي الثقافي، وبالتالي في حفظ هذه الأجيال.

أعود إلى نقطة الاستمرارية، وهي نقطة في منتهى الأهمية. إن أي مشروع لكي يأتي أكله، لابد له من خطة، ومن بداية، واستمرارية حتى يبلغ هدفه. والواحد منا إذا أراد أن يصنع من نفسه كاتبا، عليه أن يهيئ لنفسه خطة، ثم عليه أن يبدأ، وبعد البداية عليه أن يستمر حتى يبلغ ما يريد ويقصد. ولم نسمع عن إنسان -ولن نسمع- أنه صنع من نفسه كاتبا مرموقا بين عشية وضحاها. فالأمر يحتاج إلى استمرارية الرغبة، واستمرارية الجهد حتى بلوغ الغاية. وهذا الأمر كما ينطبق على بناء المهارات الكتابية والتحصيل العلمي، ينطبق على مختلف المشاريع في الحياة.

وتحضرني هنا قصة العلامة السكّاكي (رحمه الله)، إذ كان هذا العالم الجليل يدرس على يد أحد الأساتذة، وكان في حينها يكبر بقية التلاميذ في السن، وكان الطلبة الآخرون يأخذون عليه التأخر في التحصيل العلمي وعدم البدء في سن مبكرة. وعلى ما أذكر، في يوم من الأيام تعلم من أستاذه مسألة، وهي أن جلد الكلب لا يطهر بالدباغة، والدباغة هي طلاء الجلد كما نعلم. ولكي يقوي ذاكرته ويحفظ هذه المسألة كان يكررها باستمرار لكي لا ينساها، وكان لذلك يردد مع نفسه: جلد الكلب لا يطهر بالدباغة، جلد الكلب لا يطهر بالدباغة، جلد الكلب لا يطهر بالدباغة. وفي الدرس الآتي طلب منه شيخه أن يذكّره بالمسألة التي تعلمها في الدرس الماضي، فقال: جلد الشيخ لا يطهر بالدباغة، فأخذ الشيخ والطلاب يضحكون لما سمعوا، لأنه استعاض عن مفردة “الكلب” بمفردة “الشيخ”. مع هذا لم يفقد السكاكي الأمل في مواصلة التحصيل والدراسة وبلوغ الدرجة الرفيعة فيه.

وذات يوم كان خارجا في البرية، وساقته قدماه نحو منظر أحدث تأمله فيه تحولا كبيرا في شخصيته التحصيلية والعلمية. لقد توقف عند صخرة تتقاطر عليها قطرات الماء، وتأمل في موضع سقوط تلك القطرات على الصخرة، فرأى أن تلك القطرات مع استمرار تساقطها أحدثت حفرا فيها. ثم تأمل في نفسه، وقال: إن هذه الصخرة الصماء تأثرت بفعل استمرار سقوط القطرات عليها، فلم لا أستمر في دراستي رغم كل ما يعترضني من مصاعب، ورغم كبر سني، وضعف ذاكرتي. وصمم مع نفسه، واستمر، وسجل التطور تلو التطور في التحصيل والدراسة حتى بلغ مكانة مرموقة.

كما تحضرني أيضا قصة أحد الكتاب الغربيين، حيث كان يكتب المقال تلو المقال ويرسله إلى إحدى الصحف، وكان رئيس التحرير يرفض مقاله في كل مرة ولا ينشره، حتى بلغ عدد مقالاته التي رُدّت الألف مقالة. وحين أرسل المقالة رقم 1001، قبلها رئيس التحرير ونشرها. فلم يمنعه رفض رئيس التحرير نشر مقالاته من مواصلة الكتابة، بل استمر على ذلك، حتى قبلت مقالاته، وأصبح من الكتاب المرمومقين.

وهكذا فنحن في بناء مهارة أو فن الكتابة بحاجة إلى شيء من الرغبة ةالإرادة والاستمرارية.

وأتذكر أنني وبعض الإخوة الأعزاء بدأنا قبل سنوات دورة منزلية في تعلم فن الكتابة، وكان الحضور في البداية يصل إلى عشرة أفراد أو أكثر قليلا، ثم تقلص العدد مع مرور الأيام، حتى لم يعد يحضر أحد. وهكذا فنحن ندخل في البدايات، لكننا نعاني من عدم وجود استمرارية في مشاريعنا ورغبة وإرادة كافيتين. وما من شك أنه بتغلبنا على هذه الإشكالية سيكون حالنا أحسن بكثير.

أعود إلى أسئلتك، عزيزي.
سألتني أولا: أن الكتابة –شأنها شأن الكثير من الصناعات والمهارات- تتطلب قدرا من الحِرفية، وثمة كثيرون يحبون أن يدونوا خواطرهم أو كتابة مقال أوقصة فكيف يمكنهم تنمية ملكة الكتابة لديهم حتى يتمكنوا من ذلك؟

في البدء ينبغي لي أن أبين أن الكتابة مهارة قابلة للاكتساب، وقد تكون موهبة، وكل واحد منا -إذا أراد وهيأ متطلبات تعلم فن الكتابة في نفسه واستمر- باستطاعته أن يصنع من نفسه كاتبا جيدا.

ولتنمية مهارة الكتابة، يحتاج المرء إلى أربعة أمور رئيسة:
1- شيء من الخلفية النظرية في مجال صناعة الكتابة.
2- ممارسة مستمرة في الكتابة.
3- الاستفادة من كتابات الآخرين في مجال صناعة الكتابة.
4- أن يفكر كثيرا، ويقرأ كثيرا، ويستمع كثيرا، ويناقش كثيرا.

والاستفادة يمكن أن تبدأ بالتقليد، والتقليد في الكتابة ليس عيبا، وأعني التقليد في الأسلوب وليس في الأفكار. وأرقى أنواع الاستفادة من كتابات الآخرين هي الاستفادة التقويمية والتي يقوم فيها الكاتب المتعلم بالتعرف على أساليب من يقرأ له من الكتاب ثم يقوم بنقدها. وهذه تتنمى عند المرء مع الزمن وباستمراره في الكتابة ومتابعة ما يكتبه الآخرون.

والخلفية النظرية يمكن أن تكون عامة أو خاصة، فإذا كانت عامة يمكن للمرء أن يدرس كيفية كتابة المقال، وكيفية كتابة الخاطرة، أو القصة، أو الرواية، وكيفية تأليف الكتاب. وإذا كانت خاصة يمكن للمرء أن يطلع على ما يرغب فيه، مثل أن يقرأ عن طريقة كتابة القصة وحدها، أو المقالة وحدها، وهكذا. ولعل كتاب (فن الكتابة: كيف تصبح كاتبا ناجحا) لكاتبه، كاتب هذه السطور، يكون مفيدا في هذا المجال. وما أكثر الكتب المفيدة في هذا السبيل!

وتحتاج الخلفية النظرية إلى شيء من معرفة بقواعد اللغة (النحو)، وحينما أقول شيئا من معرفة بقواعد النحو أقصد ليس بالضرورة أن يتبحر المرء في علم النحو، إلا إذا كان متخصصا، بل يمكنه تعلم الأمور الأساسية، مثل المرفوعات، والمنصوبات، والمبتدأ والخبر، وكان وأخواتها، وإن وأخواتها، ونواصب الفعل المضارع وجوازمه، والأسماء الخمسة، والأفعال الخمسة، وإعراب الجمع بأنواعه، و… وأنصحه -إذا استطاع- أن يقرأ أو يدرس كتابا صغيرا في هذا المجال.

ويمكنني القول أن المزاولة المستمرة للكتابة والاستفادة من أساليب الآخرين تساعد المرء في طريقة إنشاء المادة المكتوبة، وكذلك في تحقيق معرفة نحوية لا بأس بها. كما يمكنني القول أن ثمة كتابا طوروا أنفسهم من خلال المزاولة المستمرة للكتابة ووصلوا إلى مستوى مرموق فيها على الرغم من ضعف خلفيتهم النظرية في هذا المجال، سواء في في ما يتعلق بنظرية فن الكتابة أو في ما يتعلق بقواعد اللغة.

ومن الخلفية النظرية أن يطلع المرء –ولو قليلا- على علوم البلاغة، وعلوم البلاغة هي ثلاثة: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع. ويمكن للمرء في هذا السبيل أن يقرأ كتابا مفيدا، أو يدخل ضمن دورة دراسية. ومن الكتب المفيدة في هذا السبيل كتاب “البلاغة الواضحة”، تأليف: علي الجارم ومصطفى أمين، وهو كتاب سهل وسلس.

وأقول لكل راغب في الكتابة: أكتب واكتب واكتب، واستمر، وحافظ على الرغبة والإرادة، ولا تمل، واستفد مما يكتبه غيرك، وسيكون التطور والنمو من نصيبك بلا ترديد.

ولا عيب أن يقلد الإنسان –في البداية- كاتبا جيدا يحب أسلوبه وطريقته في الكتابة. فعلى سبيل المثال: إذا كنت تريد أن تطور من مهارتك في فن كتابة المقال، فاقرأ مقالات لكتاب آخرين، ثم حاول أن تستفيد من طريقتهم في البدء في المقال وفي تناول ومعالجة جزئيات موضوعه واسترسالهم في ذلك. وهكذا الحال بالنسبة للقصة القصيرة، اقرأ قصصا لكتاب في هذا المجال، ثم حاول أن تقلد وتبدأ كتابة قصة جديدة بنفسك مستفيدا من أساليب الكتاب الذين قرأت لهم، سواء في ما يتعلق بطريقة البدء في القصة، أو الاسترسال فيها، أو الأساليب الفنية والحوار الذي تحتويه.

ولا يمنع التقليد الإنسان من أن يحاول الإتيان بأساليب جديدة، وأن يعطي لنفسه هامشا أو مساحة من ممارسة الاعتماد على النفس في الإبداع والابتكار في الكتابة. لكنني أقول أنه ابتداء من التقليد الجيد، وبالاستمرار في الكتابة يمكن للمرء أن يطور مدرسة في المجال الذي يكتب فيه، سواء كان مقالا، أو قصة، أو رواية، أو كتابا، أو غير ذلك. وأصحاب المدارس الكتابية أول ما بدأوا انطلقوا من تقليد كتاب آخرين، ثم استمروا في الكتابة وطوروا، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه.

وسألتني ثانيا: كيف يعمل المرء على تنمية القدرة على الابتكار في تعلم فن الكتابة؟

وأجيبك: وكما تقدم في الإجابة على سؤالك الأول أن القدرة على الإبداع والابتكار في الكتابة لا تولد ولا تتوفر في فترة قصيرة، حيث لابد للمرء أن يقطع شوطا لا بأس به في مزاولة الكتابة نفسها، وكما ذكرنا، لا مانع له –في البدء- أن يقلد غيره من الكتّاب في الأسلوب وطريقة الكتابة. ومن خلال الممارسة المستمرة للكتابة، ووضع اليد على نقاط الضعف فيها وتقويمها يستطيع أن يطور من قدرته في الكتابة. ولكي يقوّم قدرته في مهارة الكتابة يمكن له أن يهيئ المادة المكتوبة –سواء كانت مقالا أو قصة قصيرة أو خاطرة أو غير ذلك- ويعرضها على من هو صاحب خبرة وتجربة في فن الكتابة، ويستفيد من ملاحظاته وتوصياته. وبعد الاستفادة من الملاحظات والتوصيات يقوم بكتابتها مرة أخرى، ويلاحظ التغيرات والتطور في مادته المكتوبة.

وسألتني ثالثا: كيف يمكن تذليل بعض العقبات التي تعترض طلاب العلم والمعرفة حين القراءة والكتابة؟

ينبغي أن نميز بين الصعوبات التي تعترض طالب العلم والمعرفة حين يقرأ، وحين يكتب. فحين يقرأ، من الصعوبات التي قد تواجهه هو عدم فهم النص المكتوب، أو بعض ما جاء فيه، وللتغلب على ذلك يمكن للمرء أن يعيد قراءة النص غير المفهوم، سواء كله أو بعضه حسب الحالة، وعن طريق إعادة القراءة والتأمل في النص قد يمكن له فهمه. وإذا تعذر عليه ذلك، يمكن له الرجوع إلى من يشعر أن له قدرة على مساعدته في هذا السبيل، ولا شك أن للحوار المعرفي والمناقشة دور مؤثر في تذليل الصعوبات في هذا المجال.

والصعوبة التي قد تعترض المرء في الكتابة تارة في التعبير عن الفكرة، وتارة في أسلوب الكتابة وطريقتها. في ما يتعلق بالتعبير عن الفكرة، ينبغي للمرء أن يحاول التعبير عن فكرته قدر ما يستطيع، وبالمحاولة يسهل الأمر، وإن تعذر عليه ذلك يمكن له الرجوع إلى من يمتلك القدرة على المساعدة. ويجدر التذكير هنا بأنك قد تجد من يقول: الفكرة موجودة في ذهني لكني لا أستطيع التعبير عنها. أما أسلوب الكتابة فيمكن تطويره من خلال امتلاك الخلفية النظرية في فن الكتابة، ومن خلال التجربة والخبرة التي تكتسب من الممارسة المستمرة للكتابة، ومن خلال الاستفادة من طرق الآخرين وأساليبهم في تناول الموضوعات ومعالجتها.


.

عزيزي نور العاشقين، يسعدني كثيرا أن تكون متواصلا معنا في الحوار، وأشكر لك أسئلتك المفيدة.

سألتني أولا بقولك أنك من خلال تتبعك لردودي لاحظت أنني أنصح المبتدئ في الكتابة بتقليد الكاتب المُحبَّب إليه في الأسلوب وليس في الأفكار، فأنت شخصيا من عشاق كتب الشهيد مرتضى مطهري (رحمه الله)، ولكن من الصعب عليك كثيرا أن تقلده لأنه يعتمد في كتاباته على التحليل والتفنيد والابتكار وطرح أمور جديدة لم يطرحه غيره، فكيف يمكنك أن تقلده؟

محاولة للإجابة على سؤالك، وددت القول أن تقليد كاتب معين في الأسلوب وفي طريقة الكتابة وتناول الأفكار ومعالجتها لا يعني أن لا يستفيد المتعلم من أفكار الكاتب، بل يمكنه أن يستفيد منها، ويمكنه في حال البحث أو الاستشهاد أن يقتبس منها حرفيا مع تحديد النص المقتبس ووضعه بين أقواس، أو فهم الأفكار والتعبير عنها بأسلوبه الخاص. لكن عموما المعالجات العلمية والفكرية يغلب عليها ما يسمى الأسلوب العلمي في الكتابة، وهو الأسلوب الذي يعتمد على إبراز الفكرة بصورة واضحة دون اللجوء إلى التعبيرات المجازية والصور البيانية والمحسنات البديعية. وهناك أسلوب في الكتابة يسمى الأسلوب العلمي المتأدب، وهو أسلوب يجمع بين الأسلوب العلمي وتوضيح الأفكار بصورة محددة مع تضمين الكلام صورا بيانية ومحسنات لفظية وغير ذلك، وذلك لإضفاء نوع من اللطافة والجاذبية على المادة المكتوبة.

وبكلمة أقول: إن استفادتك المستمرة من كتب الشهيد مطهري واعتيادك على قراءة كتبه وأبحاثه سيساعدك في تعلم طريقته في معالجة الموضوعات والقضايا المطروحة للبحث، كذلك ستتيح لك فرصة الاستفادة من أسلوبه وطريقته في الكتابة، كيف يبدأ الموضوع، وكيف يتدرج فيه ويتسلسل، وكيف يبرهن فيه ويستدل، وكيف يصل إلى الخلاصة التي يريد الوصول إليها.

وعموما، أتمنى أن تصبح في يوم من الأيام مفكرا، كما الشهيد مطهري، وذلك ليس ببعيد، وما أحوجنا إلى مفكرين يغنون مجتمعاتهم بأفكارهم وطروحاتهم.

وسألتني ثانيا، أنك تلاحظ على نفسك عندما تتفاعل مع حدث معين أو عندما تصيبك حادثة فإنك تستطيع التعبير عنها في صورة مقالات جميلة، فهل للتفاعل والشعور الداخلي أثر في الكتابة؟

وأجيبك: لا جدال في أن للتفاعل والشعور الداخلي أثر في الكتابة، بل إلى درجة يمكن القول معها أن أي مادة مكتوبة تسبقها تجربة شعورية يعيشها الكاتب. فكاتب الخاطرة حين يكتب خاطرته يعيش تجربة شعورية، والشاعر حين يكتب قصيدته يعيش تجربة شعورية، وكاتب القصة القصة القصيرة حين يكتب قصته يعيش تجربة شعورية، والروائي حين يكتب روايته فهو يعيش أحداث روايته في تجربة شعورية، وهكذا. وتتجلى التجربة الشعورية في صورة تغلب عليها العاطفة في المقطوعات الأدبية التي تتطلب شحنات كبيرة من العاطفة. ومثال ذلك القصيدة، فالشاعر تجده يعاني ويتفاعل مع موضوع قصيدته حتى يستطيع أن يسكبها في صورة كلمات منتظمة في أبيات شعرية.

وسألتني ثالثا عن رغبتكم في دراسة فن الكتابة بالاستعانة بي، وعن الأسباب التي أخرت أو ألغت هذه الفكرة، فالواقع أنه يسعدني أن أفيد إخواني الراغبين في هذا المجال، ولا أدري ما هي حقيقة الأسباب التي أخرت هذا الأمر أو ألغته. كل ما أعلمه أن أحد الإخوة تكلم معي ذات مرة حول رغبته وبعض الإخوة في تشكيل دورة في تعلم فن الكتابة، فأبديت استعدادي لذلك، لكنه منذ ذلك الحين لم يرد عليّ. وهنا أود القول بأنه إذا أحببت يمكنك أن تختار لنا مجموعة –لا تزيد عن عشرة- من الراغبين، وممن لهم قدرة مسبقة لا بأس بها في الكتابة، وقابلية في الاستمرارية، لكي نشرع بعون الله وفضله.


.

بسم الله الرحمن الرحيم
أرجو المعذرة من الإخوة والأخوات في منتديات شبكة مهزة لانقطاع خدمة الشبكة العالمية للمعلومات عني لأسباب خارجة عن الإرادة. الآن وقد عادت الخدمة فيمكننا أن نواصل في محورنا الثالث الذي كنا فيه وهو “فن الكتابة”، وبانتظار أسئلة المهتمين والراغبين من الإخوة والأخوات إن وجدت.

أقول للإخوة والأصدقاء عظم الله أجوركم في ذكرى نهضة الإمام الحسين (ع) الخالدة، ووفقنا تعالى جميعا للاستنارة في حياتنا من هذه النهضة العظيمة والمباركة في جميع أبعادها.

ولابد للمرء هنا أن يعبر عن إدانته الشديدة للأعمال الإجرامية (ومرتكبيها) التي ارتكبت في كربلاء والكاظمية بالعراق وفي الباكستان في يوم عاشوراء الإمام الحسين (ع) والتي أدت إلى سقوط المئات من الزوار والمؤبنين بين شهيد وجريح، حيث تحولت الذكرى إلى شهادات دامية، تقطعت لها قلوب جميع المسلمين وأصحاب الضمائر الحية في هذا العالم. رضوان الله تعالى على الشهداء، و دعاؤه بالشفاء للجرحى.

لا شكر على واجب يا أخي العزيز “الزمهرير”، ويسعدني أن أكون في خدمتك وجميع الإخوة والأصدقاء.


.

أخي الحبيب قيصر، سلام من الله عليك ورحمة وبركات، وبارك تعالى فيك وفي أمثالك.

المعذرة لانقطاع خدمة الشبكة العالمية للمعلومات عني لمدة، وذلك لأسباب خارجة عن الإرادة كما ذكرت سابقا، وأشاركك الرأي في أن رياح الظروف ومتغيراتها -في أحيان- تجري بما لا تشتهي سفن إرادة الإنسان ومبتغاه، وفي مثل هذه الأحوال على الإنسان أن يبذل قصارى جهده في ما هو ممكن ومستطاع، وفي غير الممكن وغير المستطاع عليه أن يتحلى بالصبر.

سألتني –عزيزي- أولا: في أجواء عاشوراء، وفي أجواء إحياء ذكرى نهضة الإمام الحسين (ع) الخالدة، كيف نستفيد من إحياء ذكرى هذه النهضة المباركة في صناعة أقلامنا؟ وما هو دور الكتّاب تجاهها؟

وأجيبك: إن نهضة الإمام الحسين (ع) ميدان خصب لكل من أراد أن يتعلم ويتلمّذ وعلى مختلف المستويات. وفي ما يتعلق بصناعة القلم هناك أدب هو أدب النهضة الحسينية، أو أدب الطف، وحري بالكاتب الإسلامي –وكل كاتب صاحب ضمير ووجدان- أن لا يحرم نفسه من هذا الأدب، وهذا الأدب منه ما هو دراسة موضوعية، ومنه ما هو شعر، ومنه ما هو نثر أدبي، ومنه ما هو سيرة وتاريخ. ومن هنا خليق بكل من يعمل على تنمية قلمه وصناعته أن يقرأ الإمام الحسين (ع) ونهضته المباركة، والكتب التي كتبت في هذا المجال كثيرة وليست قليلة، وهناك كتّاب غير مسلمين كتبوا عن الإمام الحسين (ع) لأن نهضته الخالدة ليست لطائفة معينة بل هي امتداد لدين جده الذي أرسله الله للإنسانية كافة. إنها منهج الإصلاح، ونداء العزة، وصوت العدالة، وصرخة المظلوم للدفاع عن حقوقه والانتصار لها، ونصرة المظلوم والتضامن معه في كل زمان ومكان.

كذلك حري بالكاتب أن يطلع على قصائد الشعراء والأدباء التي صورت نهضة الإمام الحسين (ع)، وهذه القصائد اشتملت على معالجة حال الأمة الإسلامية آنذاك، وتصوير المأساة التي نفذ فصولها الحكم الوراثي الأموي وما حدث للإمام وأنصاره وأهل بيته في كربلاء والكوفة والشام، وانطوت على كثير من القيم الأخلاقية والحث على تمثلها والاقتداء والتأسي بالإمام الحسين فيها. ومن قصائد الشعراء يمكن للكاتب أن يتعلم الكثير على مستوى طريقة نظم الشعر، وتحصيل الثروة اللفظية، واستخدام البيان في التصوير وإبراز المعاني. وشعراء أفذاذ من أمثال دعبل الخزاعي، والسيد حيدر الحلي، والسيد جعفر الحلي، والشيخ حسن الدمستاني، والسيد رضا الهندي وأمثالهم حري بالكاتب –وغيره- أن لا يحرم نفسه من قراءتها والتأمل فيها والاستفادة منها.

وخليق بالكاتب أن يستفيد من أجواء الذكرى في تنمية قلمه، لأن نهضة الإمام الحسين (ع) تثير في الإنسان وجدانا حيا وعاطفة قوية وحبا جمّاً، وذلك الوجدان وتلك العاطفة وذلك الحب مستمدة من المكانة المرموقة التي يحتلها الإمام الحسين كونه ابن رسول الله (ص) والامتداد الطبيعي لرسالته الغراء، ومن المنهج الإصلاحي والأهداف الإصلاحية السامية التي نهض من أجلها، وقدم نفسه وأهل بيته وأنصاره قربانا لها، وهو القائل: ((اللهم إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى)). إن أجواء إحياء الذكرى يمكن أن تزود الكاتب بزخم قوي في صناعة الكتابة، مع العلم بأن المقصود من العاطفة هنا هي العاطفة العاقلة والواعية، وليس أي عطفة.

وما أجمل الكاتب منا في مواسم إحياء ذكرى نهضة الإمام الحسين (ع) أن يتناول يراعه (قلمه) ويكتب في هذه النهضة. يكتب وهو يعيش أجواء الذكرى، وما من شك أن الكتابة في ظل أجواء الذكرى لها طعمها الخاص، ونكهتها المتميزة، ونتائجها الأفضل.

أما عن دور الكتّاب تجاه نهضة الإمام الحسين (ع) فيمكنني أن أوجزه في دراسة النهضة الحسينية دراسة موضوعية شاملة، والتتلمذ في رحابها، وبذل الجهد الكبير في نشر تلك الإضاءات والدروس والعبر والقيم التي انطوت عليها وإيصالها للناس.

وسألتني ثانيا: هل هناك علاقة بين شخصية الإنسان وما يكتب؟
وأجيبك: بكل تأكيد هناك علاقة. فكما أن قسمات الوجه ومفردات (فلتات) اللسان تدل على ما يضمره الإنسان وما يخفيه في داخله((ما أضمر امرؤ شيئا إلا ظهر على قسمات وجهه أو فلتات لسانه))، كذلك الكلمة المكتوبة لها ارتباط بشخصية كاتبها، وتدل عليها لأنها منطلقة عنها. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن النقاد (الأدبيين وغيرهم) يستطيعون قراءة الشخصيات الأدبية وغيرها من خلال دراسة التراث المكتوب لهذه الشخصيات، والظروف والاشتراطات التي عاشتها حيث إن الظروف والاشتراطات الظرفية، الزمانية والمكانية، تؤثر في شخصية الإنسان وفي نتاجه الفكري والأدبي.

وسألتني ثالثا: أنك كثيرا ما ترى الحزن بين الأحرف، وتجد الكبرياء مخفيا بين السطور، ترى هل أصبح الحزن سمة مميزة لعصرنا؟ أم لون الحزن يروق لنا أكثر في الكتابة؟

وأجيبك: لا أخفيك سرا إذا قلت بأننا كمسلمين وما بلغته أمتنا من تردٍّ وانحدار وما تكابده من تقييد وطغيان وديكتاتورية وما تتعرض له من تجزئة وتقطيع بالمقص الأجنبي (وتحديدا الأميركي) بكل ما يعنيه ذلك التقطيع، ولد في أوساطنا حالة من الإحساس التراجيدي. وكأمثلة: أنك تجد الحاكم في عالمنا لا يستجيب لمطالب وطموحات شعبه، وإذا نظرت إلى القضية الفلسطينية تجد الدولة الصهيونية في كل يوم ترتكب المذابح بحق إخوتنا الفلسطينيين، وتدمر بيوتهم، وتجرف أراضيهم، وإذا نظرت إلى العراق تجد المحتل الأمريكي يجثم بكلكله الثقيل على صدر الشعب العراقي والأمة الإسلامية، وترتكب المذابح بسبب ذلك الاحتلال، وبسبب التفرد والديكتاتورية التي أدت إليه، ومثل هذا حدث في أفغانستان، وإن تفاوتت الأوضاع بين هنا وهنالك. وفوق كل ذلك تجد الأميركي يحاول أن يفقدنا هويتنا، ويعمل على جعلنا أشتاتا وليسة أمة واحدة، ويتدخل في كل شؤوننا، ويحاول أن يفرض علينا لونا من الديموقراطية التي يريدها هو، ويرى أنها تحفظ مصالحه. وإضافة إلى هذا الكوارث الطبيعية المستمرة التي لا تنقطع في مختلف أنحاء العالم وما تتسبب عنه من مذابح ودمار تضفي أجواء من الحزن والتراجيدية على الإنسان.

وبكلمة: إن الأوضاع في عالمنا الإسلامي في مجملها تلقي بالحزن على الإنسان. لكن رغم هذا كله لا يجوز أن نفقد الأمل، وأن لا نصاب باليأس، وأن لا نفقد التوازن. فالتوازن، والحفاظ على التوازن مطلوبان، وينبغي أن نفكر دائما في أن في آخر النفق ثمة شعاع من النور والأمل.

ومن باب الشيء بالشيء يذكر، أتذكر أنه في أحد أعداد مجلة “العربي” الكويتية نُشرت قراءة لكتابين متضادين في النظرة لكاتبين مختلفين، أحدهما يتناول العالم وتاريخ الإنسانية على أنه سلسلة طويلة وممتدة من المآسي والتراجيديات والأحزان، وأن ما فيه من مآسٍ وأحزان ونكبات ومصائب وويلات يفوق بكثير ما فيه من أمل وإيجاب. والكتاب الآخر على العكس، يتناول الموضوع بصورة متفائلة، ويرى أن الإنسانية وعبر تاريخها الطويل الممتد حققت كثيرا من المنجزات الإيجابية التي تبعث على الشعور بالتفاؤل والأمل والإيجاب والاعتزاز والنظر إلى الحياة من منظار يخالف النظرة الأولى.

وعموما، لا ينبغي للإنسان أن يفرط في مشاعر الحزن، لأن الإفراط في الحزن –وخصوصا حينما لا يكون قائما على أساس صحيح- قد ينجم عنه شخصية ظلامية غير متوازنة، متشائمة ومنكفئة وسلبية وضيقة الأفق، وينبغي أن يوظف الحزن ومشاعره توظيفا صحيحا وواعيا. وبرأيي أن الكاتب والخطيب والمنشد ليسوا منفصلين عن تاريخهم وتراثهم وأحداث عالمهم، والأحداث المأساوية في التاريخ والتراث والعالم تلقي بآثارها على نتاج الكاتب والخطيب والمنشد. وكمثال بسيط: أنه حتى في أناشيدنا المنشدة في مناسبات الفرح والبهجة تجدها ملونة بألوان الحزن، وقد يكون ذلك من جراء فقدان التوازن والاعتدال في الحزن والشعور به، أو نتيجة إلى ميل إلى مدرسة في العشق والحب ترى بأن نغمة الحزن هي أفضل أسلوب للتعبير عن ذلك الحب والعشق والارتباط الوجداني بالحبيب والمعشوق. لكن مع هذا، ينبغي الحفاظ على التوازن، لأن التوازن هو الأفضل. مع العلم بأن شخصية الكاتب (وكذلك الخطيب والمنشد) لها أثر في اختيار الأسلوب من حيث الميل إلى الأسلوب الحزين أو عدمه.

وسألتني رابعا: هل صحيح ما يقال أن للكاتب أوقات خاصة يستطيع خلالها إطلاق العنان لفكره وقلمه والتعبير عما يشعر به؟

وأجيبك: أجل، فشأن الكاتب والمادة المكتوبة كشأن البحر، مد و جزر، فتارة يجد الكاتب نفسه قادرا على إنتاج عدد من الصفحات المكتوبة، وتارة قد يجد نفسه غير قادر على إنتاج صفحة واحدة أو بعض صفحة. وهناك عوامل مختلفة تؤثر في ذلك، منها: المزاج، والقدرة على التركيز، وتوافر المعلومات، والجو الملائم ماديا ومعنويا، والصحة، والميل والرغبة، وغيرها. لكن مع هذا تحتاج الكتابة إلى نوع من الصبر والإرادة، لأن في الكتابة بحث وبذل لجهد عقلي. وليس من قبيل الغرابة أن تسمع من شاعر يقول: جلست قبل أسبوع مع نفسي فكتبت قصيدة بأكملها، أما البارحة فقد جلست لأكتب قصيدة أخرى ولم أتمكن من كتابة خمسة أبيات من الشعر.


.

أستاذي الفاضل أبابيل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وتحية أخوية مخلصة ملؤها المحبة والتقدير والتبجيل أقدمها لكم. وكم يسعدني كثيرا أن تشاركنا في الحوار لكي نتنور بأسئلتك وآرائك ونظراتك.

سألتني: كل مقال ينطلق من فكرة عامة اختمرت في عقل كاتبه فيقولبه في فقرات وجمل متفاوتة الطول والتركيب، فكيف تبني خطة لإنشاء مقال –بمختلف أنواعه- متكامل الأفكار، محكم السبك، وقوي الصياغة؟ وبعبارة أخرى: ما هي الخطوات الأولية التي يفكر فيها الكاتب قبل الشروع في الكتابة؟ وكيف يعد الكاتب خطته وبرنامجه في صناعة المقال؟

محاولة في الإجابة على سؤالك باختصار، يمكنني القول أن المقال –أو المقالة- بمختلف أنواعه يحتاج إلى خطة، والكاتب المبتدئ –كما تعلم- هو بحاجة إلى تعلم طريقة وضع مخطط لمقاله، لكي يقيم طريقته في الكتابة على أساس علمي، ولكي تأتي المعالجة للموضوع منظمة ومتسلسلة وقوية وخالية من الضعف والركاكة. ومع حصول التمرس والخبرة في صناعة الكتابة، يجد الكاتب نفسه بصورة طبيعية يكتب ويسترسل في مقاله ضمن خطة يمارسها عمليا أثناء كتابته للمقال من دون أن يحدد تفاصيلها ابتداء. وكل شي كما يعلم الجميع يتيسر ويسهل بالتمرين والممارسة والخبرة.

وقبل شروع الكاتب في مقاله –أو مقالته- ينبغي له أن يفكر في موضوعه ويحاول أن يهضم ذلك الموضوع بصورة جيدة تمكنه من تناوله بصورة جيدة أو مقبولة، وأن يعيش ذلك الموضوع. والكاتب بحاجة إلى أن يحسن التفكير في موضوع مقاله قبل الكتابة، وأثنائها، وبعد الانتهاء منه على سبيل المراجعة الفكرية.

أما كيف يبني الكاتب خطة لمقاله، فبعد أن يحدد الموضوع الذي يريد أن يكتب فيه تحديدا جيدا، فهناك ما يمكن أن يُدعى بالهيكل التنظيمي للمقال، وضمن هذا الهيكل يسكب المقال ويعالج الموضوع المراد معالجته. وباتفاق كثير من خبراء الكتابة وأساتذتها، ومهما اختلف نوع المقال، سواء كان علميا، أو أدبيا، أو بحثا، أو دراسة، أو… يشتمل هيكل المقال أو مخططه على ما يلي:

1- العنوان: وهو دليل المقال الأول، فأول ما يصادف القارئ من المقال المكتوب عنوانه. ويحتل العنوان موقعا هاما في المقال، بل ربما يذهب البعض إلى القول بأن العنوان نصف المقال. ومن هنا يحتاج الكاتب إلى أن يحسن اختيار عنوان مقاله، لكي يكون معبرا عن الموضوع وجذابا من الناحية الأدبية والفنية.

والعنوان على أنواع، وكلما تمرس الكاتب في صناعة الكتابة كلما تطورت لديه ملكة اختيار العناوين الفنية والجذابة والمؤثرة. ويذهب قسم من خبراء الكتابة إلى أنه كلما كان العنوان موجزا كلما كان أفضل وأكثر جاذبية. والعنوان يمكن أن يكون على أنواع كثيرة، فقد يكون خبريا (جملة أو جمل خبرية)، وقد يكون إنشائيا، كأن يكون استفهاما، أو تعجبا، أو غير ذلك من أساليب الإنشاء، وقد يكون عنوانا مزدوجا: عنوان في سطر، وعنوان آخر أسفله يفصل في الأول أو يحدد فيه.

2- البداية أو المقدمة. والبداية أو المقدمة هي افتتاحية المقال، أو هي الفقرة الأولى التي يمهد فيها الكاتب لموضوع مقاله. وبحسب خبراء الكتابة أن من الأفضل أن تكون البداية موجزة وغير طويلة. والبداية –كالعنوان- يمكن أن تكون على أنواع متعددة، فقد تكون خبرية، وقد تكون إنشائية مثل إثارة مجموعة من التساؤلات ممهدة للموضوع، وقد تكون قصصية، كأن يفتتح الكاتب مقاله بقصة قصيرة، وقد تكون حوارية، كأن يبدأ بحوار بين شخصين أو جهتين أو أكثر. وقد تكون تاريخية كأن يفتتح الكاتب مقاله بمعلومات من السرد التاريخي، وقد إحصائية كأن يفتتح الكاتب مقاله بإحصائيات تتعلق بنوع الموضوع الذي يتناوله. وكلما تفنن الكاتب وتمرس في الكتابة، استطاع أن يبدع في الإتيان ببدايات متطورة وجديدة.

ومن الخصائص الفنية للبداية الجيدة أن تكون مشوّقة، بحيث إذا بدأ القارئ بقراءتها يشعر بميل ورغبة في المواصلة في قراءة المقال. وما من شك أن التمرس في الكتابة والخبرة فيها تساعد الكاتب على إنتاج بداية فنية ومشوّقة. ومن الحسن للكاتب المبتدئ أن يتأمل ويدرس كيف يفتتح الكتّاب المتمرسون والخبراء مقالاتهم، وكيف يمهدون للأفكار والآراء التي سيعالجونها فيها. ولعل من هؤلاء الكتاب المتمرسين رؤساء تحرير الصحف، أو الكتاب أصحاب المقالات الثابتة الذي زاولوا الكتابة لمدة طويلة، واكتسبوا خبرة في هذا المجال. وأنصح الكتاب المتعلمين أن يتابعوا برامج الصحافة في قنوات التلفزيون (مثل “الرابعة” و”اليومية”، في قناة “المنار”، و”اتجاهات الصحافة” في قناة “العالم”، و”مرآة الصحافة” في قناة “الجزيرة”)، حيث يُعرض النص على الشاشة، ويُقرأ في نفس الوقت، لكي يروا بأمهات أعينهم كيف يسكب هؤلاء الخبراء مقالاتهم، وكيف يعالجون موضوعاتهم بتركيز، وأدب جميل، وتحليل جيد.

3- العرض. ويسمى البسط لأن الكاتب يبسط فيه ويفرش موضوع مقاله بالتفصيل. وفي العرض يبدأ الكاتب بتقسيم مقاله إلى مجموعة من الأقسام أو العناوين الجانبية التي يمثل كلا منها جزء من الموضوع. ويفضل في المقالات الطويلة استخدام العناوين الجانبية، وتخصيص كل عنوان جانبي لجزء من موضوع المقال. وفي المقالات القصيرة ربما تكون كل فقرة أو فقرتين هي جزء من أجزاء الموضوع. وضمن هذه الأقسام أو العناوين يأخذ الكاتب في معالجة موضوع مقاله لكي يبلغ في النهاية الهدف الذي وصل إليه. وكلما كان المقال طويلا كلما دعت الحاجة إلى عرض أكثر تفصيلا من حيث التقسيم.

وتحتل المعلومات مكانا هاما في عرض الموضوع، لأن الكاتب بها يستشهد ويحتج ويدلل ويبرهن ويؤيد ويدحض. ومن هنا تنبع أهمية القراءة والمشاهدة والاستماع بالنسبة للكاتب في تحصيل المعلومات أو في تكوين الثروة المعلوماتية بصورة عامة، والمعلومات الازمة للمقال مورد المعالجة بصورة خاصة. وكلما قرأ الكاتب أكثر وشاهد واستمع وناقش وتحاور كلما توسعت دائرة معلوماته. وهذه المعلومات بحاجة إلى تنظيم، ويمكن للكاتب أن يستخدم الأسلوب الذي يناسبه في أرشفة هذه المعلومات، وبالشكل الذي يسهل عليه أمر الرجوع إليها متى أراد. وتجدر الإشارة إلى أن وجود شبكة المعلومات العالمية ساعدت الإنسان كثيرا على الرجوع إلى مصادر المعلومات، عن طريق محركات البحث التي تتوفر عليها.

ومن خصائص العرض الفني: أن يكون متسلسلا، ومترابطا، ومركزا، ومشتملا على المعلومات اللازمة والكافية، وبعيدا عن الاستطرادات التي تضر بالموضوع وتشتته، ومفقرا بشكل جيد بحيث تكون كل فقرة لها وزنها وقيمتها في المعالجة، وتقود إلى لاحقتها بصورة فنية ومتدرجة. ومن الحسن استخدام فقرات متوسطة الطول، لأن الفقرات الطويلة قد تجعل القارئ يمل من قراءتها، وقد تجعل المعاني تتداخل عليه وتلتبس. كذلك فإن استعمال علامات الترقيم بشكل جيد يساعد في تحديد المعاني بصورة جيدة، وفي إراحة القارئ في الفهم والاستيعاب، وفي تفادي اختلاط المعاني والتباسها.

4- الخاتمة أو النهاية. والخاتمة هي الخلاصة التي يصل إليها الكاتب في نهاية مقاله. وقد تتنوع النهايات، فقد تكون استنتاجية أو استنباطية، أو تلخيصية للموضوع، وقد تكون استفهامية لإفساح المجال للقارئ للتفكير في الموضوع المعالج، أو بانتظار ما سيحصل مستقبلا، كما هو الحال في المقالات الصحفية التي تعالج أحداثا ومتغيرات، وقد تكون استشرافية أو تنبؤية، وقد تكون غير ذلك. وكلما تمرس الكاتب في مزاولة الكتابة استطاع أن يختم مقاله بصورة أفضل وأكثر جاذبية.

ولكي يكون المقال متكامل الأفكار ينبغي للكاتب أن يهضم فكرة موضوعه بصورة جيدة، بأن يمعن في التفكير فيها، وسبر أعماقها ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ولكي يكون المقال محكم السبك وقوي الصياغة يجب أن يعلم الكاتب أن الكلمة ليست مجرد كتابة بل هي اختيار، والسبك المحكم يتطلب اختيار الكلمة المناسبة لأداء المعنى المطلوب بيانه. ومن المهم أن يتعلم الكاتب فن التعبير عن المعنى بأقل عدد من الكلمات، وخصوصا في المقالات القصيرة أو ذات المساحة المحدودة. كذلك التسلسل بين الجمل وإحكام العلاقة بين الجملة والتي تليها، والربط الجيد بينها، وإحكام العلاقة بين الفقرات، والتسلسل فيها، بحيث أن كل فقرة تؤدي إلى لاحقتها. والعلاقة بين الفقرات متنوعة، فقد تكون العلاقة تفصيلية، وقد تكون إجمالية، وقد تكون استدراكية، وقد تكون غير ذلك.

وباختصار يمكن القول لكل مهتم في صناعة الكتابة: قبل أن تشرع في كتابة مقالك:
1- فكر جيدا في الموضوع الذي تريد معالجته، واعط وقتا كافيا للتفكير فيه.
2- إذا كنت بحاجة إلى مناقشة موضوع مقالك مع من ترى فيه الكفاءة، فقم بالمناقشة لأن المناقشة والحوار تقوي الأفكار وترشد الآراء وتوسع من دائرة المعلومات.
3- وفر المعلومات اللازمة وهو ما يمكن أن يدعى بالمعطيات.
4- ارسم مخططا أو هيكلا لمقالك.
5- تحلّ بالثقة القائمة على تحصيل الكفاءة في معالجة موضوع مقالك.


.

الأخت الفاضلة نعناعة

سألتيني أولا عن الكتابة في العهد السابق، وما هو تاريخها حتى وصلت إلى ما وصلت إليه في عصرنا الحالي؟

في الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى دراسة مفصلة لا يتسع المقام للخوض فيها، ولا جدال في أن صناعة الكتابة تطورت بتغير الزمان. لكن أستطيع القول باختصار أن الكتابة العربية (وأقصد الإنشاء الكتابي، أي صناعة المقال، وليس الخط الكتابي) كانت في القديم يغلب عليها المحسن البديعي. وعلم البديع هو ناحية من نواحي البلاغة، وهو العلم الذي يهتم بالمحسِّنات البديعية للكلام والإنشاء، أو هو العلم الذي يهتم بتزيين الألفاظ أو المعاني بألوان بديعة من الجمال اللفظي أو المعنوي. والمطلوب من الكاتب أن يحصّل معرفة بعلوم البلاغة الثلاثة، وهي علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، وأن يستفيد من تلك المعرفة في ممارسته للكتابة.

ومن المحسِّنات اللفظية: الجِناس، والاقتباس، والسَّجع.
ومن المحسِّنات المعنوية: التورية، والطِّباق، والمقابلة، وحسن التعليل، وتأكيد المدح بما يشبه الذم وعكسه، وأسلوب الحكيم.

واسمحي لي أن أقدم مثالا لكل ما سبق باختصار.
أولا: المحسِّنات اللفظية:
1- الجِناس: وهو أن يتشابه اللفظان في النطق ويختلفا في المعنى، وهو نوعان: تامّ، وغير تامّ. والتام هو ما اتفق فيه اللفظان في أمور أربعة هي: نوع الحروف، وشكلها، وعددها، وترتيبها. وغير التام هو ما اختلف فيه اللفظان في واحد من الأمور الأربعة المذكورة.

مثال على الجناس التّامّ: قوله تعالى: ((ويوم تقوم الساعة يُقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة)). فكلمتا “ساعة” في الآية تشابهتا في النطق، لكن معنييهما يختلفان، حيث أن الأولى تعني اليوم الآخر، بينما تعني الثانية الفترة الزمنية من الوقت المعبر عنها بالساعة، وليست هي بالضرورة الساعة التي نعرفها وتتكون من ستين دقيقة.

مثال على الجناس الناقص: قوله تعالى: ((وهم ينْهون عنه وينأَون عنه))، فكلمتا “يَنْهَوْنَ” و”يَنْأَونَ” اتفقتا في ترتيب الحروف، وعددها، وشكلها، واختلفتا في نوعها، حيث اختلف الحرف الثالث في الكلمة الأولى (وهو الهاء) عن الحرف الثالث في الكلمة الثانية (وهو الألف).

2- الاقتباس: وهو تضمين النثر أو الشعر شيئا من القرآن الكريم أو الحديث الشريف من غير دلالة على أنه منهما. ومثال ذلك: لا تغرنك من الظلمة كثرة الجيوش والأنصار، ((إنما نؤخرهم ليوم تشخص في الأبصار)). فالكاتب اقتبس من القرآن الكريم جزء الآية الموضوع بين قوسين من دون أن يقول: قال تعالى أو غير ذلك مما يدلل على أن هذا الجزء من القرآن الكريم. مع العلم بأن النصوص المقتبسة حرفيا توضع بين قوسين.

3- السَّجع: وهو توافق الفاصلتين في الحرف الأخير. ومثاله قول أعرابي لرجل سأل لئيما: نزلتَ بوادٍ غيرِ ممطورٍ، وفناءٍ غيرِ معمورٍ، ورجلٍ غيرِ ميسورٍ، فأقمْ بندمٍ، أو ارحلْ بعدمٍ. فالفواصل الثلاث الأولى التقت في حرف الراء (ممطور، معمور، ميسور)، والفاصلة الرابعة والخامسة التقت في حرف الميم (ندم، عدم). وأفضل السجع ما تساوت فقراته.

ثانيا: المحسِّنات المعنوية:
1- التورية: وهي أن يذكر المتكلم أو الكاتب أو الشاعر لفظا مفردا له معنيان: قريب ظاهر غير مراد، وبعيد خفي هو المراد. ومثال ذلك قول نصير الدين الحَمّامي وهو يمتدح شعر أحد الشعراء:
أبياتُ شِعرك كالقُصورِ*** ولا قُصورَ بها يعوقُ
ومن العجائبِ لفظُها **** حُرٌّ ومعناها “رقيقُ”
فكلمة “رقيق” في البيت الثاني فيها تورية، إذ المعنى الظاهر غير المراد لها هو الرقيق أي العبيد، ومعناها الخفي المراد هو الرقة والجمال واللطافة. لاحظ أن الشاعر ضمّن البيت الثاني مفردة “حر” وهي نقيض مفردة “رقيق”، وقد تحسب أن هذا هو المقصود، ولكن المقصود هو الرقة واللطافة والجمال في الألفاظ كما ذُكر. تجدر الإشارة إلى أن نصير الدين الحمّامي كان يحترف باكتراء الحمّامات (تأجيرها) بمصر، فلما كبرت سنه اقتصر على الاستجداء بالشِّعر، وشعره يدل على نبوغ وعبقرية، توفي عام 712هـ.

2- الطِّباق: وهو الجمع بين الشيء وضده في الكلام، وهو نوعان: طباق الإيجاب، وهو ما لم يختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا، وطباق السلب، وهو ما اختلف فيه الضدان إيجابا وسلبا.

ومثال طباق الإيجاب قول السموءل بن عادياء:
سَلي إنْ جَهِلتِ الناسَ عنّا وعنهمُ *** فليس سواءٌ عالِمٌ وجَهولُ
فطباق الإيجاب هنا في كلمتي “عالم” و”جهول”، وهما كما تعرف متضادتان، لكنهما غير مختلفتين من ناحية كونهما موجبتين، بمعنى كلاهما موجبان غير مسبوقين بنفي، وليس أحدهما موجب والآخر مسبوق بنفي.

ومثال طباق السلب القول: العدو يُخفي السيئة ولا يُظهِر الحسنة. لاحظ أن كلمتي “يُخفي” و”يُظهر” هما متضادتان، لكن الفرق هنا أن كلمة “يُخفي” موجبة أي لم تسبق بنفي، بينما كلمة “يُظهِر” مسبوقة بنفي متمثل في كلمة “لا”، ولاختلافهما في الإيجاب والسلب كان الطباق سلبيا.

3- المقابلة: وهي أن يؤتى بمعنيين أو أكثر، ثم يؤتى بما يقابل ذلك، أي بما يضاد ذلك.
ومثال المقابلة قول بعض الخلفاء: من أقعدتْهُ نِكايةُ اللئام، أقامتْهُ إعانةُ الكِرام. لاحظ هنا أن المعنى في الجملة الأولى يقابل المعنى في الجملة الثانية، فكلمة “أقعدته” يقابلها كلمة “أقامته”، وكلمة “نكاية” تقابلها كلمة “إعانة”، وكلمة “الكرام” تقابلها كلمة “اللئام”.

4-حسن التعليل: وهو أن ينكر الأديب صراحة أو ضمنا علة الشيء المعروفة (أي سببه المعروف)، ويأتي بعلة أدبية طريفة تناسب الغرض الذي يقصد إليه. ومثال حسن التعليل قول ابن نباتة المصري:
لمْ يزلْ جودُهُ يجورُ على المالٍ *** إلى أنْ كسا النُّضارَ اصفرارا

فهنا ابن نباتة يتحدث عن جود شخص، وصوّر ذلك الجود بأن فيه جور على المال، ويريد أن يقول أن هذا الشخص كثير الجود، لكنه لم يذكر كثرة الجود صراحة، فأتى بصورة أدبية تمثلت في الجور على المال، ولبيان الدرجة التي وصل إليها في الإنفاق والجود استعان بصورة أدبية من الطبيعة وهي اكتساء الخضرة بالاصفرار.

5-تأكيد المدح بما يشبه الذم، وهو نوعان:
(1) أن يُستثنى من صفة ذمٍّ منفية صفةُ مدح.
(2) ان يثبت لشيء صفة مدح، ويؤتى بعدها بأداة استثناء تليها صفة مدح أخرى.

ومثال النوع الأول قول الرسول الكريم (ص): “أنا أفصح العرب بَيْدَ أني من قريش”. فالرسول الكريم هنا وصف نفسه بصفة ممدوحة وهي أنه أفصح العرب، لكنه بعد ذلك أتى بأداة استثناء (بَيْدَ)، وتصور السامع أنه (الرسول) سيذم نفسه بعدها بصفة مذمومة، لكنه أتى بصفة ممدوحة وهي أنه من قريش، وقريش أفصح العرب كما هو معلوم.

ومثال النوع الثاني قول ابن نباتة:
وجوهٌ كأزهارِ الرياضِ نضارةً *** ولكنها يومَ الهَياجِ صُخورُ
فهنا ابن نباتة نعت من يمدحهم بأن وجوههم كأزهار الرياض النضرة الجميلة، واستدرك بعد ذلك باستخدام (لكنها)، وظن السامع أو القارئ أنه سيأتي بشي يخالف ذلك المدح، لكنه أتى بمدح آخر لهم وهو أنهم (يوم الهياج صخور)، أي في الحروب مقاتلون أشداء لا يلينون.

6- تأكيد الذم بما يشبه المدح، وهو نوعان:
(1) أن يُستثنى من صفة مدح منفية صفة ذمّ.
(2) أن يثبت لشيئ صفة ذم، ثم يؤتى بعدها بأداة استثناء تليها صفة ذمّ أخرى.

ومثال النوع الأول: (لا فضل للقوم إلا أنهم لا يعرفون للجار حقه).
فهنا نفى القائل عن القوم صفة الفضل في بداية الكلام (لا فضل للقوم)، ثم جاء بأداة استثناء (إلاّ) وأعقبها بصفة ذم أخرى وهي أنهم لا يعرفون للجار حقه ولا يعطونه إياه.

ومثال النوع الثاني: (النص كثير التعقيد سوى أنه مبتذل المعاني)
فهنا أثبت الكاتب أو القائل للنص صفة ذم وهي كثرة التعقيد، ثم جاء بأداة استثناء (سوى) وأعقبها بصفة ذم أخرى وهي أن معاني النص مبتذلة وغير ملتزمة أخلاقيا.

7- أسلوب الحكيم: وهو تلقي المخاطَب بغير ما يترقبه بترك سؤاله والإجابة عن سؤال لم يسأله. وإما بحمل كلامه على غير ما كان يقصد، إشارة إلى أنه كان ينبغي أن يسأل هذا السؤال أو يقصد هذا المعنى.

ومثاله قوله تعالى: ((يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)).
فهنا السؤال: ما هي الأهلّة، ولكنه تعالى لم يجب على ماهية الأهلّة، بل أجاب على أن من وظائفها وفائدتها للإنسان معرفة الأوقات ومعرفة موسم الحج. وهنا الله تعالى إما يحمل كلام السائل على غير ما كان يقصد، وإما يريد أن يوجه السائل إلى السؤال عن وظائف ومنافع الأهلة لا عن ماهيتها.

ملاحظة:
لمزيد من التفاصيل عن البلاغة وعلومها، راجع كتاب (البلاغة الواضحة)، تأليف: علي الجارم ومصطفى أمين.

وسألتيني ثانيا بقولك عن المصريين أنهم أمة لا تتعب من التأليف والكتابة، ما هو السبب في ذلك، وهل هذه الصفة سببها عامل وراثي لديهم؟

وإجابة على ذلك تحضرني الكلمة التي تقال في صناعة المعرفة عن مصر ولبنان والعراق: القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ. ولا ينكر الدور الفكري والثقافي الذي قامت وتقوم به مصر في إعداد البحث والمعرفة، كما لا ينكر دورها كثقل في الأمة العربية والإسلامية على مختلف الأصعدة والمستويات، هذا الثقل الذي تسعى قوى الشر والاستكبار والإمبريالبة إلى إضعافه وتحويله إلى بلد تابع مهمش مستجدٍ، لا حول له ولا قوة، ولا يحل ولا يعقد. ومن الجدير ذكره أن البحث والتأليف والتصنيف صفة من الصفات المعهودة في مصر، وهذا يعود إلى عدة أمور منها اهتمام المجتمع المصري بالعلم والمعرفة، واهتمام الكفاءات العلمية نفسها الجانب، وكذلك اهتمام الدولة، يضاف إلى ذلك أن مصر –ومنذ القرن الثامن عشر وحملة الفرنسي نابليون بونابرت- من أكثر الدول العربية والاسلامية انفتاحا على حضارة الغرب، وهذا الأمر ساعد على تبادل المعرفة والترجمة وغير ذلك.

أما هل أن هذه الصفة هي صفة وراثية في المصريين فلا أستطيع البت في ذلك، مع العلم بأنه ما زالت في مصر نسبة كبيرة من الأمية مع أنها بلد صناعة العلم والمعرفة.


.

أستاذي العزيز “أبابيل”
تحياتي المخلصة إليك مجددا مكلّلة بالمودة والمحبة.

قلت في سؤالك الأول: البحوث العلمية في الدول العربية تعاني من أزمات كبيرة وأولها أزمة الإهمال وقلة التخطيط، واستبعادها من حسابات الموازنة حسب علمي، أو تخصيص نصيب ضئيل وخجول من الميزانية العامة للدولة، ولذلك جاء النتاج العلمي في دول الوطن العربي مجتمعة لا يعادل عشر ما تنتجه دويلة إسرائيل في عام واحد، حتى قرأنا في إحدى المجلات العربية الشهيرة أن عدد الباحثين في الوطن العربي يقدر عددهم بثمانية آلاف باحث فقط، في حين في دويلة إسرائيل 40 ألف باحث، ما سر هذا التفاوت؟ وهل يرجع ذلك إلى البناء إلى البناء التربوي في دولة إسرائيل عنه في الوطن العربي؟ أم أن ثمة أمور تعود إلى الطبيعة الخاملة والمترفة التي تربى عليها العرب؟

أرى أن من أسباب التفاوت بين عدد الباحثين في الكيان الصهيوني وبين عددهم في الوطن العربي يعود إلى مجموعة أسباب، منها:

1-الحرية والديموقراطية، ومنها حرية الفكر والتعبير عن الرأي وحرية البحث. طبعا لا يحسبني القارئ أنني أمدح في الكيان الصهيوني. فالديموقراطية وإن كانت موجودة في هذا الكيان المصطنع ظلما وزورا، لكنها عنصرية أيضا، وخصوصا في ما يتعلق بفلسطينيي 1948(يسميهم الكيان الصهيوني عرب إسرائيل). وفي الكيان الصهيوني حرية إنشاء الأحزاب مكفولة، وكل الأحزاب تتنافس للحصول على أكثر عدد من الممثلين في الكنيست. وبصورة عامة، الحرية والشوروية (الديموقراطية) تفتح للإنسان آفاقا كثيرة، ومن تلك الآفاق: آفاق التفكير والبحث والإبداع والتنافس، بخلاف الديكتاتورية والاستبداد فهما يقمعان الفكر والبحث والإبداع والتنافس.

2-كلنا يعلم أن هذا الكيان المصطنع هو خنجر مغروز في قلب أمتنا، وأمريكا والغرب ما فتئوا يمدونه ويدعمونه بأسباب القوة، وما زالوا يدعمونه بكل ما يستطيعون من أجل أن يبقوه قوة ضاربة على مختلف المستويات، ومنها المستوى العسكري، والمستوى العلمي. فهذا الكيان –كما نعلم- هو الدولة الوحيدة التي تمتلك القنبلة النووية في الشرق الأوسط، ولا تعير أي اهتمام بمقررات الأمم المتحدة في ما يتعلق بحظر الأسلحة النووية، بل أن أميركا والغرب ترى أن توفر هذا الكيان –وحيدا- على القنبلة النووية هو شرط لبقائه على قيد الحياة، ومصدر ضغط وقلق بالنسبة للدول المحيطة وسائر بلدان العالم العربي والإسلامي، ويغلفون ذلك بغلاف الأمن (أمن إسرائيل). فأمن إسرائيل في المفهوم الأميركي والأوروبي يعني إبقاءها القوة النووية الوحيدة في محيطها العربي والشرق أوسطي.

3- يضاف إلى ذلك أن الصهاينة يدركون أن قوة العلم والبحث قو جبارة لا ينبغي أن يستهان بها، سواء على صعيد السلم أو على صعيد الحرب، ومن هنا فهم يعتبرونها مقوم أساس من مقومات دولتهم، ويعطونها اهتماما كبيرا، ولعل هذا هو السر في وجود عدد كبير من الباحثين في هذا الكيان.

4- ويضاف إلى ذلك أن شعب هذا الكيان شعب متنوع من المهاجرين الذين جاؤوا من مختلف الدول: الأوروبية، والروسية، والأميركية، والأفريقية، والعربية. ولعل هذا التنوع له أثره.

وما من شك أن الدولة التي تشيع فيها الحرية وتؤسس عليها يزدهر فيها البحث والإبداع، لأن باستطاعة الكل أن يفكر ويبحث بحرية ويستمر في البحث ويراكم المعرفة. وهذا مما لا يتوفر في بلادنا. فالشعوب عندنا مقموعة، والشعوب المقموعة لا تبدع عادة، لأن الإبداع يزدهر في مناخ الحرية. في الغرب مثلا –ولست أقوم بدعاية للغرب- إذا أردت أن تكتب مقالا تعالج فيه رأيا أو فكرة وتنشره في صحيفة، فإنك تكتبه وتنشره بحرية. لك أن تفكر وتكتب وتعبر عن آرائك ما تشاء. أما في بلادنا فإذا ما فكرت في نشر مقال يعالج رأيا أو فكرة تتعلق بالشأن العام فإنك تحسب ألف حساب وحساب. بل أن كثيرين من الذين لا يكتبون عن قضايا وشؤون بلادهم يمنعهم عن ذلك شعورهم بعدم توفر حرية التعبير والرأي، وإن أتيحت حرية التعبير عن الرأي تكون بصورة هامشية لا تتعدى خطوطا حمراء. هذا هو واقع الحال في بلادنا كما نعلم جميعا، فأي إبداع يمكن أن يزدهر طالما أحس الإنسان بأنه مكبوت الفكر مقيد الرأي.

5- وفي بلادنا –وللأسف الشديد- تصرف كثير من الإنفاقات الطائلة على أمور هامشية، ومشاريع ليست أساسية أو ثانوية أو لا تحتل أولوية، مثل الإنفاقات الطائلة التي تصرف على مظاهر الديكور الخاصة، وتكلف ميزانية البلد الكثير الكثير. أما البحث العلمي كما ذكرت –أستاذي العزيز- فلا يحتل أولوية، وإنما هو من الثانويات.

وسألتني ثانيا هل أنني فكرت في إعداد دراسات بحثية عن مجتمع قريتنا مهزة، من قبيل دراسة بعض الظواهر الاجتماعية لاستقصائها والتفكير في أصولها وأسبابها، وتقديم الأطروحات العلاجية أو المباني الفكرية لتطوير شأن معين في القرية؟

قد أكون فكرت في إعداد بعض الدراسات البحثية الميدانية عن مجتمع قريتنا لكنني لم أقم بوضع ذلك في صورة دراسة أو كتاب، لكنني أراقب مجتمع قريتي دائما، وأحاول دائما أن أقدم المعالجات الفكرية على طريق تصحيح بعض الأوضاع الفكرية والثقافية الخاطئة فيه، وهذا من واجب مجتمعي علي، ولن آلو جهدا في الإسهام بما منحني الله تعالى من قدرة على التفكير وإبداء الرأي في خدمته، ولن أجامل أحدا في تصحيح ما في مجتمعي من أفكار خاطئة، وما فيه المصلحة العامة. تجدني دائما أتساءل مع نفسي: كيف لمجتمع قريتنا أن يتقدم؟ كيف لطرق التفكير فيه أن تترقى؟ كيف للعمران فيه أن يزدهر؟ كيف الخروج من نفق الفقر والفاقة؟ كيف نوسع من التعليم الجامعي؟ كيف نقيم مجتمعنا على مبدأ الحب؟ وكيف نعممه فيه؟ كيف نعالج الممارسة الاستبدادية في مؤسساتنا الأهلية وكيف نجتازها؟ كيف نصنع مجتمعا قارئا يحب الثقافة والفكر؟ وكثيرة هي الأسئلة التي أطرحها على نفسي وأظل أمعن التفكير فيها علني أصل إلى ما فيه مصلحة هذا المجتمع.

وسألتني ثالثا عن السر المختفي وراء خمول المثقف المهزي في نشر نتاجات علمية ودراسة محكمة إجرائية حول مجتمعه وما يدور فيه من قضايا ثقافية وسياسية وعلمية وتربوية، هل السبب أزمة ثقة بالنفس أم ماذا؟

وبداية للإجابة على هذا السؤال، لا شك أن هناك تقصير من جانب المثقفين، هذا من ناحية، وهذا التقصير قد يكون لأسباب مختلفة، منها أزمة الثقة بالنفس كما ذكرت، ومنها أسباب أخرى قد يطول المقام بذكرها والتفصيل فيها. لكن من ناحية ثانية، يحتاج المثقف إلى من يسنده في أفكاره ويتعاضد معه، ويعينه على ما يرمي إليه. والمشكلة تكمن حينما ينظر المجتمع إلى أفكار المثقف على أنها أطروحات فوقية لا طائل من ورائها، أو أنها مجرد خزعبلات، أو خروج غير مرغوب فيه عن الموروث أو المألوف. هنا يشعر المثقف بالصدمة، لأنه يشعر أن المجتمع لا يشاركه الرأي في طريقة الأخذ به إلى الأفضل، في حين هو يجد ويجتهد (أو على الأقل يعطي من جهده) من أجل مجتمعه. ويمكنني القول: في أي مجتمع، كلما ازدادت الهوة بينه وبين مثقفيه المخلصين الذين يريدون له الخير والتقدم إلى الأفضل، كلما أصبح وضع المجتمع على درجة من التأخر لا يحسد عليها.

شكرا لك أخي العزيز “الملاحظ” على مداخلتك الكريمة التي أدخلتها ضمن محورنا الأول في الحوار وهو “بناء الشخصية”، وأشكرك على ما أفدت، وإن كنا قد اجتزنا هذا المحور إلى المحور الثالث من حوارنا وهو “فن الكتابة”، فأهلا ومرحبا بك مشاركا لنا في الحوار.

تبقى لي ملاحظة على القسم الأخير من مداخلتك التي قلت فيه بما نصه: “أما العقيدة فهي تتغلب على القناعة وذلك لأن الناس يربطون فكرة ما بقوة عاطفية جديدة. فالشخص الذي يحمل عقيدة لا يكتفي بالإحساس باليقين بها، بل يغضب إذا وُضعت هذه العقيدة موضع التساؤل، وهو لا يقبل أن توضع مرجعياته موضع التساؤل ولو للحظة واحدة، فالمتعصبون على مدى التاريخ يتمسكون بما يعتقدون به إلى حد الهوس، بحيث أنهم يبدون استعدادا للقتل دفاعا عن قناعاتهم، وهذا هو ما دفع مجموعة من الناس الذي يعيشون في غايانا مثلا لدس السم لأطفالهم في شراب ” الكول إيد”، ثم تناوله هم أنفسهم بناء على توجيهات مهووس أطلق على نفسه صفة المسيح، وهو على ما أعتقد جيم جونز”.

نتفق أنت وأنا على أن العقيدة هي قناعة، لكنها متغلبة عليها بمعنى أنها قناعة من نوع خاص يتميز بالقوة والثبات، بصرف النظر عن كون هذه العقيدة محقة أو باطلة، صحيحة أو خاطئة، ولا شك أن العقيدة الصحيحة يتمسك بها صاحبها أشد التمسك، ويستميت دفاعا عنها، وهذا مما يتطلبه الإيمان بالعقيدة الصحيحة. لكن لم أفهم ما تقصده من قولك أن الناس يربطون فكرة ما بقوة عاطفية جديدة. فكما نعلم أنا وأنت أن العقيدة ينبغي أن يؤمن بها الإنسان عن اقتناع عقلي لا عن شعور عاطفي، ومن هنا لا تقليد في الإيمان بأصول الدين وإنما التقليد في فروعه كما هو معلوم، هذا من ناحية.

ومن ناحية ثانية، ينبغي التفريق بين ما هو عقيدة مثل الإيمان بوحدانية الله، وبرسله، وملائكته، وكتبه، واليوم الآخر، والأئمة، وبين ما نضفي عليه نحن صفة العقيدة، بينما هو ليس منها، وهو قابل للمعالجة والنقاش والتعديل والتطوير إلى الأفضل. والمقصود هنا أن لا نخلط بين هذا وذاك. دعنا نضرب لذلك مثالا: الإيمان بوحدانية الله عقيدة لا يجوز لنا المساس بها، بينما ضرب السيف أو القامة (وهو ما يعرف بالتطبير) في مناسبة عاشوراء هو ليس عقيدة، لأنه لا يرتبط بإنكار ضرورة من ضرورات الدين، بل هو ممارسة بدأت في حقبة معينة من تاريخ الشيعة في احتفالهم بذكرى نهضة الإمام الحسين (ع)، واستمرت إلى يومنا هذا، وهي اليوم محل أخذ ورد بين نظرتين، إحداهما ترى أن فوائد ضرب السيف أكثر من مضاره وعلى امتداد الزمان، والأخرى ترى العكس، أي أن مضاره أكثر من فوائده، وخصوصا في ما يتعلق بزماننا هذا لاعتبارات يفهمها الجميع. وقس على ذلك كثيرا من الأمور والممارسات التي قد نصنفها في خانة العقيدة، لكنها ليست كذلك، ومن مصلحتنا أن نعيد النظر فيها لكي نتلافاها أو نظهرها بالشكل الأفضل والمضمون الأحسن، وأن نكون منفتحين بعقولنا في معالجتها، وأن لا توقف عقولنا العواطف، أو التعصب الذي يلغي العقل ويعطله.

ومن ناحية ثالثة، إذا كان وضع العقيدة موضع التساؤل بحيث يؤدي إلى زيادة قوة الإيمان بالعقيدة، وتشخيص ما هو من العقيدة عما ليس منها، لتجنب الخلط وإدخال ما ليس منها فيها، فما المانع من ذلك؟ بل حتى ما يُدعى بالشك المنهجي يعتبر من الوسائل التي تختبر فيها درجة الإيمان بالعقيدة، وتساعد على زيادة القناعة والتمسك بها. وكما يذكر القرآن الكريم على لسان سيدنا ونبينا موسى (ع) حينما جاء لميقات ربه أنه قال: ((رب أرني كيف أنظر إليك، قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك إني تبت إليك وأنا أول المؤمنين)) (الآية 143 من سورة الأعراف). أنا لا أقول بأن سيدنا موسى كان يشك في وجود الله تعالى، ومن حق كل إنسان أن يحصل قناعة راسخة بمعتقده، ولكنه عليه السلام يريد أن يعلمنا أن تحصيل الإيمان بالعقيدة يجب أن يتم بالعقول وليس بالعواطف والانفعالات. ناهيك عن أن الانسياق وراء العواطف، والتعصب لها، يقود إلى تعطيل العقل، وربما إدخال إلى العقيدة ما ليس منها.


.

أستاذي الفاضل “أبابيل”، لكي مني تحية طيبة مفعمة بالود والتقدير والاحترام، مشفوعة بشكري الجزيل لك على رفد الحوار بالأسئلة.

سألتني أولا: لماذا تخشى مؤسساتنا الأهلية من الكتابات النقدية؟ ولِمَ لا تستثمرها في عملية الإصلاح والتطوير بدلا من تحميلها على محامل العداء والنصب؟ وهل من سبيل إلى ابتكار آلية في الكتابة تجمع بين الناقد والمنقود وتؤلف قلوبهما بطريقة نظيفة بعيدا عن إطلاق تهم ضد هذه وذاك؟

محاولة في الإجابة على ذلك، دعني أقول في البداية أننا جميعا إخوة بصرف النظر عن كون واحد منا عضوا في إدارة مؤسسة أهلية أو لم يكن، ولابد من المحافظة على متانة آصرة الأخوة بيننا وإن اختلفنا في الآراء والنظرات. والمؤسسات الأهلية هي في نهاية المطاف وسائل ووسائط ينبغي أن تقربنا أكثر وتجمع شملنا لا أن تفرقنا وتشتتنا، والحمد لله أنها تقربنا. ومن متطلبات الأخوة الحقيقية أن يستمع الأخ إلى أخيه، ويتعاطى معه بصدر رحب، وعقلية منفتحة واعية. ومعالجة الموضوع هنا هي من زاوية إيجابية.

وهناك فرق كبير بين أن ينتقد شخص ما مؤسسة أهلية نقدا بناء ومخلصا من أجل أن يصحح أو يصلح من مسيرتها، وبين من ينتقدها بقصد تسقيطها، فالتسقيط مرفوض جملة وتفصيلا، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، ينبغي لمن هو ضمن إدارة مؤسسة أهلية –سواء كانت مأتما أو صندوقا خيريا أو غيره- أن يفتح أذنيه وقلبه لكل نقد بناء يهدف إلى إصلاح المؤسسة أو الارتقاء بها إلى الأفضل، لأن من صفات العاقل حسن الاستماع لأخيه، وإلا وقعنا في الجمود وما قد يترتب عليه من نتائج غير محمودة. الجمود ليس أمرا حسنا، والإقصاء والتجاهل والإنكار في التعامل ليس أمرا حسنا كذلك. نحن –على سبيل المثال- ننتقد الأميركي (الإدارة الأميركية) لأنه يستخدم معنا –دولا وشعوبا- سياسة (إما أن تكون معي وإلا فأنت مارق شرير)، ولكننا –وللأسف الشديد- قد نستخدم مع –إخواننا- ممن ينتقد مؤسستنا الأهلية لونا إقصائيا فيه نوع شبه بهذه الطريقة. فلماذا؟ إننا إخوة، ولسنا غير ذلك، وواجب كل منا أن يفتح قلبه للآخر، وأن لا يصم أذنه عن الآراء البناءة والنقد المخلص.

الأمر الآخر، هناك منا من يخاف من النقد ربما لشعور منه بأن هذا النقد موجه إليه شخصيا، أو إلى وجاهته كعضو في مؤسسة أهلية، وكأننا في سباق مع الوجاهة. والمطلوب أن يعلم الجميع منا أن المؤسسات الأهلية لم تُقم بهدف الوجاهة وصناعتها، وإنما من أجل إحياء ذكريات رموزنا العظام، والتوعية والتثقيف والخدمة الاجتماعية. إن الربط بين الاشتراك في إدارة مؤسسة أهلية وبين قصد الوجاهة والشهرة هو أمر ينبغي أن يكون مورد تأمل ومراجعة، وإلا تحولت مؤسساتنا الأهلية إلى ميادين لطلب الوجاهة والشهرة، بينما المطلوب فيها أن تكون وسائط ومحافل لإفادة الاجتماع ونشر وتكريس الالتزام بالقيم الأخلاقية. ويمكنني القول أن من آفات مؤسساتنا الأهلية في بلادنا: البحث عن الشهرة والوجاهة، والانغلاق وعدم الانفتاح على الرأي الآخر، والجمود والتكرار وضعف الرغبة في التجديد والإصلاح وإن كان فيه أفضلية وأكثر جدوى للمجتمع. يضاف إلى ذلك أنه حري بنا أن نعي أن المؤسسات الأهلية هي ليست هيئات أوتوقراطية (إدارات مطلقة) يتصور القائمون عليها أنها ملك لهم، أو يتصرفون أو يُشعِرون الآخرين وكأنهم كذلك. فالمأتم –كمثال- ليس ساحة للهيمنة والوصاية وفرض الرأي والاستبداد به، بل هو وسط مفتوح للجميع، وساحة للحوار، لا وصاية فيه لأحد على أحد، والمطلوب من القائمين على المؤسسات الأهلية، ومنها المآتم، أن يعوا هذا الأمر، وحري بمن يفكر في غير ذلك أن يراجع نفسه. طبعا لا أقصد من ذلك أن تبقى المؤسسة الأهلية بلا إدارة تنظمها وتوجه مسيرتها، وإلا دبت فيها الفوضى وحالة اللانظام، ولا أقصد أن لا يوجد من يتصدى لإدارة هذه المؤسسات. وتجدر الإشارة إلى أن قسما من مؤسساتنا الأهلية خطت خطوات إيجابية في إصلاح أمرها –والحمد لله- إلى ما هو أفضل، سواء على صعيد التنظيم الإداري والاختيار الدوري للإدارة، أو على صعيد التجديد في إحياء الذكريات وإيجاد البرامج، والمرجو أن تتوسع الدائرة، وتتراكم الخبرات.

وبرأيي أن من الأسباب التي تجعل المؤسسات الأهلية غير متفهمة للكتابات النقدية البناءة وعدم استثمارها في الإصلاح:

1-الوعي غير الناضج في مفهوم النقد البناء، والخلط بينه وبين النقد غير البناء، أي تصنيف النوعين في خانة واحدة، وفي هذا مجانبة لروح الاعتدال في التعامل مع الأمور ومعالجتها.

2-فقدان التوازن في التعامل مع الأمور أو الحكم عليها، بمعنى تضخيمها إلى ما هو أكبر من حجمها الفعلي. وعلى سبيل المثال -لا الحصر- على هذا: إذا كنت جارا للمأتم، والمناسبات كما نعلم كثيرة، وكان الصوت ينبعث منه بقوة شديدة، وترجيت أخاك في إدارته أن يتعاون معك ويراعيك في خفض الصوت المنبعث من السماعات لكي لا يصيبك الضرر أو الأذى، فلربما وُوجهت بالقول: هل نقفل المأتم إذن؟ إن هذه الطريقة فيها تضخيم للأمور عن حدها الفعلي، ولم يقل أحد بإغلاق المأتم، بل المطلوب هو تفهم حال جيرانه ومراعاتهم باعتدال الصوت ليس إلا، وهذه من الممارسات الحضارية التي يجدر بنا جميعا أن نعيها وأن نمارسها عمليا ونشجعها في حياتنا، وأن لا نهملها أو نتجاهلها، فالعلم والمعرفة يقولان بأن شدة الصوت الزائدة عن حد الاعتدال هي من معكرات المحيط الاجتماعي، ومن المضرات بالجهاز السمعي والجهاز العصبي، وتظهر آثار ذلك –بصورة أكثر جلاء- مع التقدم في السن. فلماذا لا نتفهم ذلك، وننفخ في الأمور ونعطيها فوق حجمها بقصد قطع الطريق أمام الطرف الآخر، وعدم الاعتناء برأيه؟ إن عدم اعتنائنا برأي الطرف الآخر قد يكون فيه ظلم له، وليس من طبع الأخ ولا من خصاله أن يظلم أخاه أو يؤذيه أو يضره أو لا يرضيه إذا كان محقا في ما يرى.

3- وجود الفاصلة الثقافية والاختلاف في طرق التفكير بين خط التوجيه في المؤسسة الأهلية وبين طموحات الرأي أو الاتجاه الذي يدعو إلى الإصلاح والتحسين والتطوير إلى الأفضل.

أما عن الآلية في الكتابة التي يمكن مع الجمع بين الناقد والمنقود وتؤلف قلوبهما بطريقة نظيفة بعيدا عن إطلاق تهم ضد هذا وذاك، فيمكنني القول أن الأمر بحاجة من الطرفين إلى ما يلي:

(1) التحلي بروح الانفتاح، بين إدارات المؤسسات وبين أصحاب الرأي، لأن الانفتاح هو الكفيل بإتاحة تلاقح الآراء، وبالانغلاق على الرأي الواحد لا يمكن إحداث أي إصلاح أو أي تحسين.

(2) الفصل بين اختلاف الآراء حول مسيرة المؤسسة الأهلية وبين المحافظة على متانة الأخوة وتأصيل مبدأ المحبة. بمعنى أن لا يُرتَّب على النقد البناء غِلاً، أو بغضا، أو كراهية، أو سخيمة، أو حقدا، أو تباعدا، أو كراهية، أو ما شاكل ذلك من مشاعر النفور والتنافر. ولنعلم جميعا أن المؤسسات الأهلية يجب أن تقربنا أكثر، وإذا لم تكن كذلك ففي ذلك إشكالية كبيرة لابد من حلها.

(3) التوسل بالطريقة المؤدبة في الكتابة والحوار، وتجنب اللجوء إلى الكلمات التجريحية، لأن هذا خلاف الذوق، والأدب، والتعامل الأخوي السليم. أن نحسب لكل كلمة حسابها، وأن نعرف ماذا نكتب وكيف.

وسألتني ثانيا: النقد المتأدب الخلوق هو روح المنتديات وجوهرها الثمين، فكيف نرقى بالواقع الكتابي في منتديات شبكة مهزة إلى ما هو حسن وإيجابي؟

وباختصار يمكنني القول أنه لو أن الواحد منا وعى أهمية الكلمة، وحسب لها حسابها، وفكر عشر مرات قبل أن يكتبها أو يقولها، لكان واقعنا الكتابي حسنا وإيجابيا ومشرِّفا. المهم أن نحافظ على حدود الأخلاق والآداب في كل كلمة نكتبها، وأن لا ندخل في المهاترات والكلام الذي يضرنا أكثر مما ينفعنا. والمطلوب منا أن نعي أن النقد في حد ذاته ليس هدفا، بل هو وسيلة لتصحيح وضع يحتاج إلى تصحيح، فطالما كان وضع ما إيجابيا فتوجيه نقد سلبي إليه هو أمر خلاف الذوق والأدب. نعم لا خلاف في النقد الإيجابي من أجل التطوير والتحسين. وينبغي أن نشجع الإيجاب، لأن النماء والتطوير إلى الأفضل ينجمان عن مراكمة الإيجاب وتشجيعه.

وسألتني ثالثا: كيف ينمي الإنسان الشعور لديه بعظم مسؤولية الكلمة وخطورتها قبل إرسالها إلى الآخرين؟

ولعل ما ذكرتُه سابقا يصلح للإجابة على هذا السؤال. لكنني أضيف إلى ذلك أن شخصياتنا يجب أن تترفع عن الكلام غير الحسن أو غير المحسوب له حسابا، ويجب أن نتذكر دائما مقولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في نهجه العظيم: ((لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه)). والكلمة كما نعلم يمكن أن تكون باللسان، ويمكن أن تكون بالقلم أو بلوحة المفاتيح، فخليق بألسنتنا وكلماتنا ولوحات مفاتيحنا أن تكون وراء قلوبنا وعقولنا دائما، وليس العكس، وأن نعمل على أن يكون لنا عنق كعنق البعير في الطول حتى لا تخرج كلمة إلا بعد أن نعالجها ونمحصها ونغربلها، اهتداء بسيرة رمزنا العظيم، الإمام علي بن الحسين (ع).


.

تحياتي المخلصة لك أخي العزيز “قيصر” مفعمة بالتقدير والمحبة. وبطرحك للأسئلة الأخيرة عن الوقت، تكون قد أعطيتنا الضوء الأخضر للشروع في المحور الرابع من حوارنا وهو “استثمار الوقت”.

سألتني أولا: يمثل الوقت –بالنسبة لنا- ثروة كبيرة يجب اغتنامها واستثمارها، ونحتاج إلى إدارته في عملية الاستفادة مما هو متاح لنا منه في حياتنا، وفي مواهبنا الشخصية لتحقيق الأهداف التي نسعى إليها. كيف لنا أن نوازن بين متطلبات الاستفادة من الوقت والأهداف التي نسعى إليها؟

كمقدمة لهذا المحور الهام (استثمار الوقت)، يجدر بي القول أن الوقت أكبر من أن يوصف، فليس هو من ذهب كما قد يقال، إنه أكبر من ذلك بكثير، إنه فرصة حياة لا تتكرر، وهو سيف قاطع بتار قطعناه أم لم نقطعه. يقول كاتب هذه السطور في بيتين من الشعر له في وصف هذا المعنى:

وَلَيْسَ الوَقْتُ مِنْ ذّهَبٍ لَعَمْرِي
وَإِنَّ الوَقْتَ مَعْدِنُهُ الحَيـــاةُ
فَكَمْ مِنْ ذَهَبٍ يَفْنَى وَيَـأْتِــي
وَإِنَّ الوَقْتَ إِذْ يَفْنَى مَمَـــاتُ

ويقول في مورد آخر:

يا صاحِ لا تَحْسَبنَّ الوَقْتَ في مَهَلٍ
يَجرِي سَريعًًا وَنَحْنُ فيهِ نَنْخَـدِعُ
وَنَحْنُ لَسْنَا ابْتِدَاءً في سِياسَتِــهِ
فَغَيْرُنا قَبْلَنا فِي دَوْرِهِ خُدِعُــوا

ولنا أن نتساءل: ما هي متطلبات الاستفادة من الوقت؟ فلكي نستفيد من الوقت لابد أن يكون الوقت متوفرا لنا في البداية. ثم بعد ذلك تأتي إدارة الوقت، وإدارة الوقت تشمل:
1-تحديد الهدف أو الأهداف (إلى ماذا أريد الوصول في الاستفادة من وقتي)
2-التفكير
3-وضع الخطة أو البرنامج لاغتنام الوقت واستثماره، وهو ما يمكن أن ندعوه: تنظيم الوقت.
4-الشروع في تنفيذ البرنامج.

والموازنة التي تطرق إليها الأخ قيصر في سؤاله بين متطلبات الاستفادة من الوقت وبين الأهداف التي نسعى إليها تتمثل في أن متطلبات الاستفادة من الوقت ينبغي لنا توفيرها على سبيل بلوغ الأهداف التي نرسمها ونريد بلوغها. ولا يمكن الوصول إلى الهدف –مهما كان نوعه- إذا لم نهيئ له متطلباته. وبلوغ الهدف كما نعلم هو مرتبط بفترة من الوقت، حيث إن أي هدف نريد الوصول إليه مرتبط بمرور فترة زمنية نمارس فيها سلسلة من العمليات والأعمال المختلفة التي توصلنا في البداية إليه. قد يكون هذا الهدف قصير الأجل (أي يمكن الوصول إليه في فترة زمنية قصيرة)، وقد يكون متوسط الأجل، وقد طويل الأجل.

وهنا ارتباط وثيق بين الهدف الذي نريد الوصول إليه وبين متطلبات الاستفادة من الوقت، فإذا لم ننجح في توفير هذه المتطلبات سيكون من الصعب علينا بلوغ الهدف، وإذا بلغناه سيكون ذلك البلوغ جزئيا أو مبتورا. ويمكن القول: بقدر ما نهيئ المتطلبات اللازمة لاغتنام الوقت واستثماره نكون موفقين في الوصول إلى الهدف الذي نسعى إلى بلوغه.

ومن متطلبات الاستفادة من الوقت: تهيئة الإمكانيات اللازمة، وتشمل القوى المعنوية التي يمتلكها الإنسان مثل قوة التفكير، والإمكانيات المادية وهي الوسائل والأدوات المادية التي نستخدمها في إدارة الوقت وفي اغتنامه واستثماره. كمثال بسيط على ذلك: إذا رسمت لنفسك برنامجا في أنك تريد بلوغ هدف ما وهو أن تتعلم في ثلاثة شهور صناعة البرامج الكمبيوترية وفق لغة معينة من لغات البرمجة، فإنك في البداية تحدد لنفسك وقتا مناسبا، وتهيئ نفسك فكريا، وتمارس التفكير في أثناء تعلم البرمجة وتكوين البرامج التدريبية، وتهيئ لنفسك مكانا، مزودا بجهاز حاسوب مزود بلغة البرمجة التي تريد أن تتعلمها وتصبح مبرمجا فيها، ثم تبدأ وتضع في اعتبارك عامل الزمن، وكيف توفق بين الهدف الذي وضعته لنفسك، وبين أعمالك وانشغالاتك الأخرى.

وسألتني ثانيا: كيف نرد على الطلبة الأولاد الذين يبررون تفوق الطالبات عليهم بأن الوقت ضيق لديهم، ولا يوجد متسع منه لهم كما هو لدى البنات؟

إذا كان الأولاد يبررون تفوق أخواتهم الطالبات عليهم بضيق الوقت، فالرد عليهم يكون بالتساؤل: ما هو سبب ضيق الوقت لديهم؟ وإذا كان جوابهم: طول فترة اللعب الرياضي التي يمضونها، والخروج مع الأصدقاء، فالمطلوب أن يكونوا موازنين بين اللعب والخروج مع الأصدقاء وبين الدراسة. فعلى سبيل المثال: إذا كنتُ طالبا ووجدتُ أن قضاء ثلاث ساعات من اللعب اليومي تضر بدراستي فعلي أن أنقص فترة اللعب إلى ساعة، أو يمكن أن أنقصها إلى ثلاث مرات –أو مرتين- في الأسبوع بدلا من أن تكون يومية. طبعا أرجو أن لا يحسبني الطلاب من الذين لا يشجعون على اللعب والرياضة، فالرياضة مطلوبة، وهي ضرورة صحية، وهي تساعد على الدراسة والتحصيل العلمي، لأنها تجدد الحالة النفسية للإنسان، وتكسر الروتين الممل، وتقوي الجسم، وقوة الجسم بلا شك مرتبطة بتقوية قوة التفكير. وهكذا الحال بالنسبة للخروج مع الأصدقاء، فإذا كان إمضاء ثلاث ساعات في اليوم –مثلا- مع صديق لي تضر بتحصيلي العلمي، فلِمَ لا أجعلها ساعة ونصف أو ساعة. وبدل أن أمضي ساعتين من الوقت مع أصدقائي بعد الصلاة، لِمَ لا أجعلها ساعة أو بعض ساعة، وأوفر الباقي للتحصيل والدراسة. وبالمناسبة، ينبغي أن لا يضع الطالب وقته في التحصيل العلمي رهنا لأصدقائه، وأن لا يكون عاطفيا إلى درجة التسيب، بل ينبغي له أن يكون مستقلا في رسم البرنامج التحصيلي الذي يساعده في ضمان التفوق، مع المحافظة على وصل الأصدقاء.

ويمكنني القول أن تعامل طلابنا مع الجانب الرياضي له ارتباط وثيق بتحصيلهم الدراسي، وببناء مستقبلهم وتطوير مجتمعهم القروي بصورة خاصة ومجتمعهم العام بصورة عامة. فكلما وازن طلابنا بين اللهو المشروع (ومنه اللعب الرياضي) وبين التحصيل كلما كان مستقبلهم أفضل وفرصة تطوير مجتمعهم القروي والنهوض به أكبر، وعكس ذلك صحيح. فإذا أردنا مجتمعا قرويا ناهضا ليس أمامنا سوى الموازنة الدقيقة بين الرياضة والتحصيل العلمي. وبصورة أكثر تحديدا، يمكنني القول أننا إذا لم ننجح في جعل نسبة كبيرة (أو معقولة على الأقل) من طلابنا وطالباتنا مؤهلين للدخول في التعليم الجامعي، فإن مستقبل نهوض مجتمعنا القروي لن يكون بالصورة التي نطمح إليها. وإن التنافس بين طلبتنا وطالباتنا في الدراسة والتحصيل العلمي له الأثر الملموس في النهوض بمجتمعنا القروي بصورة خاصة، وفي مجتمعنا الكبير بصورة عامة.

وسألتني ثالثا: الوقت نوعان: نوع يمكن تنظيمه، وآخر لا يمكن تنظيمه، فكيف يمكن لنا أن نستفيد من الوقت ونستثمره في كلتا الحالتين؟

ربما كان قصدك أن هناك وقتا هو في يدك ويمكن لك أن تنظمه، مثل أن تكون في بيتك ولك من فرصة من الوقت قدرها على سبيل المثال أربع ساعات أو أكثر أو أقل، فيمكن لك أن ترسم برنامجا للاستفادة منها، كأن تقرأ في كتاب، أو تعد مقالا أو غير ذلك. وربما كان قصدك من الوقت الذي لا يمكنك تنظيمه هو ذلك الوقت الذي ليس في يدك، وتنظيمه ليس في يدك كذلك، كأن تحضر مجلسا وتجد نوعا من الحرج في توجيه أحاديث ذلك المجلس من أجل استفادة أفضل من الوقت. ويمكنني القول أن كثيرا من الأوقات الذي قد نرى أنه لا يمكننا تنظيمها، يمكننا تنظيمها بنوع من المبادرة الفنية اللطيفة. فإذا رأينا –على سبيل المثال- مجلسا ما تُضيَّع فيه الأوقات على التسلية وحسب وصرف الأوقات بلا طائل، فلم لا يكون لنا نوع مبادرة تؤثر في سير المجلس إلى الأفضل، وتساعد على الاستفادة من الوقت بصورة أفضل؟ ومثلا: بدل أن نجعل الحديث يسير على غير نظام، لم لا نطرح سؤالا عن حدث من قضايا الساعة ونقوم بتداوله وتحليله؟


.

شكرا لك عزيزي “نور العاشقين” مجددا على مشاعرك النبيلة، وبدوري أحييك بأخلص تحية مفعمة بالتقدير والمحبة، ولا شكر على واجب، نور الله حياتك بالحب وجعلنا جميعا من المستنيرين بعشق الله.

سألتني أولا: إذا كان إسلامنا الحنيف يهتم بالوقت إلى درجة كبيرة، فلِمَ نحن بعيدون كل البعد عن الاستفادة من الوقت واستثماره أفضل استثمار؟

إجابة على سؤالك، تحضرني كلمة لأحد المفكرين الغربيين حينما قال: الإسلام جوهرة غطاها المسلمون. ومضمون هذه الكلمة أن الإشكال فينا نحن المسلمون، والتقصير من جانبنا، أما ديننا فيحتوي على ثروة زاخرة من التشريعات والمبادئ والقيم الأخلاقية والتنظيمية. إنه جوهرة غطيناها بسوء تطبيقنا لمبادئها وقيمها الأخلاقية والتنظيمية، أو بتنكرنا لها وتركها جانبا، ولكي نعرج في سلم التقدم لا بد لنا من العودة إليها والاستفادة منها.

كثيرة هي الآيات القرآنية والنصوص الشريفة التي تدعونا وتوجهنا إلى أهمية الوقت وتنظيمه وحسن اغتنامه واستثماره. ويبقى علينا أن نسعى بجد في ترجمة تلك النصوص إلى رؤى وسلوك عملي في حياتنا. وسيرة زموزنا العظام هي خير هادٍ لنا على طريق تنظيمنا لأوقاتنا واغتنامها واستثمارها.
إذا كنا بحق (أفرادا وجماعات) نريد أن نكون أمة منظمة تحترم وقتها وتنظمه وتغتنمه وتستثمره أفضل استثمار، لابد من العودة إلى القيم والمبادئ والقواعد التنظيمية في ديننا الحنيف –وما أكثرها!- وتطبيقها والسير على هداها. كذلك كثيرة هي المؤلفات البشرية الحديثة حول إدارة الوقت وتنظيمه واغتنامه واستثماره، ويمكن لنا الاستفادة منها.

وسألتني ثانيأ: العظماء لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من مستوى راقٍ ومكانة عالية إلا بتنظيمهم للوقت وجدولته واستثماره، فكيف يمكننا أن نصنع لأنفسنا جدولا ينظم وقتنا ويقوّم مسيرة حياتنا؟

وللإجابة على ذلك: من أهم ما يميز شخصيات العظماء عبر التاريخ أنهم ينظرون إلى الوقت نظرة غير عادية، وعلى ضوء هذه النظرة تجد شخصياتهم حافلة بالنشاط والإنجاز والإبداع.

وعن تنظيم الوقت، يمكن للواحد منا أن يتساءل مع نفسه بالقول: إذا كان اليوم 24 ساعة، وأنام من 7-8 ساعات، وإذا كنت أدرس أوأعمل فأنا أصرف ما بين 6-8 ساعات، فيبقى لي من يومي في حدود 10 ساعات، فما أنا صانع فيها؟ وينبغي للواحد منا أن يجيب إجابة جادة على هذا السؤال بالصورة التي تنظر إلى الوقت على أنه عنصر أكثر من هام في هذه الحياة. في هذه الـ10 ساعات يمكن للواحد منا أن يصنع الكثير من الأعمال، سواء في ما يتعلق ببناء ذاته، أو في المجالات الإبداعية، أو في ما يتعلق بمشاركة الآخرين في خدمة المجتمع، أو غير ذلك.

ويمكن للواحد منا أن يقوم ببرمجة هذه الأوقات المتبقية له من يومه، وأن يحرص على الاستفادة منها وتفعيلها، وأن لا يتركها تمر مر السحاب. يمكنه أن يتناول ورقة وقلما ويسطر الأعمال والاهتمامات المطلوب منه أن يمارسها خلال الساعات المتاحة له في غير النوم والدراسة أو العمل، ويقوم بتقسيم ذلك الوقت عليها. وبالنسبة للأعمال والاهتمامات هناك أعمال ثابتة أو دورية أو متكررة، وهناك أعمال طارئة أو استثنائية. ويمكن للواحد منا أن يجعل هذه الأخيرة ضمن برنامجه. كما يحتاج في بعض الأحيان إلى أن يجري تغييرا على البرنامج بهدف القيام بالعمل الخاص أو الاستثنائي.

فإذا كان الواحد منا طالبا، يمكن على سبيل المثال أن يقول: سأنظم هذه الـ 10 ساعات كما يلي:
– ساعتان في كل يوم للدراسة.
– ساعة ونصف للخروج مع الأصدقاء.
– ساعة للقراءة الخاصة (غير الدراسة).
– ساعة للصلاة والعبادة.
– ساعة للرياضة واللهو المشروع.
– ساعة ونصف لمتابعة أحداث الساعة.
– ساعة للراحة.
– ساعة للاستفادة من الشبكة العالمية للمعلومات.
– نصف ساعة لممارسة هواية أو إبداع.

مما يؤسف له أن مجتمعنا القروي مبتلى بحالة –أو ربما ظاهرة- قتل الأوقات بلا طائل. كمثال: يجلس البعض منا على قارعة الطريق ويقتل الساعات بلا نتيجة إيجابية. ولو أنه فكر بجد في تنظيم هذه الساعات واغتنامها واستثمارها لأنجز الكثير الكثير.

ومن الأمور الهامة في تنظيم الوقت تقسيمه على مجموع الأعمال والاهتمامات، بحيث يكون لكل عمل أو اهتمام الوقت المناسب له. ولا بأس بالمرونة في برمجة الأوقات وجدولتها، ولكن ليس إلى الدرجة التي تصيب الإنسان بالتسيب وضعف الإحساس بأهمية الوقت.

الأستاذ الفاضل “أبابيل”
تحية أخوية مخلصة مفعمة بالمحبة والمودة، وأرجو المعذرة على التأخر في الإجابة لكثرة الانشغالات.

سألتني أولا: ما هي مضيعات الوقت التي تحول دون بلوغ المرامي البعيدة على الصعيد الفردي، وعلى الصعيد المجتمعي؟

محاولة في الإجابة على سؤالك الهام، يمكن القول أن مضيعات الوقت كثيرة على الصعيدين، الفردي والاجتماعي، ومن تلك المضيِّعات:

1-غياب قاعدة سلم الأولويات.
المعلوم أن الأعمال متفاوتة بلحاظ الأهمية والأولوية، ويمكن للواحد منا أن يرسم سلم أولويات لأعماله، فهناك عمل مهم، وهناك عمل أهم، وهناك عمل أكثر أهمية وهكذا. والتزام هذه القاعدة يجعلنا نشخص أولوياتنا جيدا، ويجنبنا الانسياق في أعمال ثانوية وربما قد لا تكون ذات أهمية، أو قد لا تكون من ضمن ما هو مطلوب منا أو من ضمن اهتماماتنا في أسوأ الأحوال. يقول الإمام علي بن أبي طالب(ع) في نهجه العظيم: “لا قُرْبَةَ بِالنَّوافِلِ إِذَا أَضَرَّتْ بِالفَرائِضِ”، والنوافل بالمعنى الشرعي هي الصلوات المستحبة، وبالمعنى العام تصدق النوافل على الأعمال الثانوية والفرعية والتكميلية. ومن هنا فالأعمال المفروضة والأساسية هي الجديرة بالإنجاز أولا، وتليها الأعمال الثانوية إذا كان هناك متسع من الوقت للقيام بها أو إنجازها. ومن الخطأ الكبير الانشغال بالثانويات على حساب الأساسيات. إنه أكبر مضيعات الوقت.

ولكي يلتزم المرء بأولوياته ينبغي له أن يوطن نفسه على التمسك بالأولويات وعدم تضييعها. وقد يجد المرء نفسه في هذا بين اتجاهين: اتجاه العقل الذي يرشده إلى المضي في الأولويات، واتجاه النفس الذي قد يقوده إلى التراخي والدخول في الثانويات.

2-تأجيل عمل اليوم إلى الغد.
لا ننسى أن الإنسان في حياته يحاول أن يكون فارغا ويتوق إلى ذلك دائما، لكن الأيام له بالمرصاد، فهي دائما تثقله بالشؤون والانشغالات. فإذا أجل الواحد منا عمل يومه إلى غده، فإنه في الغد سيكتشف أن أعمالا أخرى تنتظره لكي ينجزها تضاف إلى ما أجله من أعمال (أعمال الغد)، ومع طول التأجيل تتكاثر الأعمال أكثر وتتزايد، ونتيجة ذلك يصاب بالازدحام وربما بالارتباك، بل البعض نتيجة تراكم الأعمال عليه بسبب التأجيل قد يصل إلى حالة ترك كل الأعمال دون إنجاز. ومن هنا فأفضل طريقة للتعامل مع عمل اليوم هو إنجازه في اليوم نفسه. نعم هناك في بعض الأحيان ظروف موضوعية أو استثنائية أو خاصة تفرض على الإنسان أن يؤجل عملا ما إلى الغد، لكن لا ينبغي أن يكون هذا بمثابة قاعدة، لأن تحول التأجيل إلى قاعدة يعمل على تبديد الأوقات، وإصابة المرء بالازدحام الذهني والارتباك بسبب تراكم الأعمال.

3-التسويف.
يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع) في نهجه العظيم: “كُلُّ مُعاجَلٍ يَسْأَلُ الإِنْظارَ، وَكُلُّ مُؤَجَّلٍ يَتَعَلَّلُ بِالتَّسْويفِ”. التسويف من الحالات غير الإيجابية التي قد يصاب الواحد منا بها، فحينما يُطلب منه أداء عمل ما فإنه قد يجهز وسيلة “سوف”، أي سوف أعمل كذا، وسوف أقوم بكذا، وسوف، وسوف، وفي نهاية المطاف ينقلب التسويف إلى قتل للوقت بلا نتيجة إيجابية. إن التسويف يعد بحق آفة من آفات اغتنام الوقت واستثماره، وقد يكون أكثر ضررا من التأجيل.

4- غياب جدولة الأعمال (الأَجِنْدَة agenda).
ينبغي أن يكون لكل واحد منا أجندة يسير عليها في أداء أعماله ونشاطاته. ومن سمات الإنسان المتحضر أن يرسم لنفسه أجندة تلائم الظروف التي يمر بها أو تلك التي تحكمه. ليجرب الواحد منا في كل يوم أو في كل أسبوع أن يتناول ورقة وقاما ويسرد في صورة نقاط قائمة الأعمال المطلوب منه أن يؤديها. وبعد أن ينجز عملا منها يضع عليه علامة (صح) دلالة على إنجازه والانتهاء منه. بهذه الطريقة يستطيع الواحد منا أن يحصر أعماله، ويعرف أي الأعمال التي هي ذات أولوية، ويمكن له أن يرتبها حسب الأولوية إذا أراد.

5- الانسياق العاطفي. العاطفة غير المرشدة عقليا قد تقود إلى تضييع الأوقات. ومن الأمثلة على ذلك حب الإنسان لأصدقائه. فالمعلوم أن الإنسان محب لأصدقائه، وهذا العاطفة قد تقوده إلى إمضاء الأوقات الطويلة مع أصدقائه على حساب اغتنامها واستثمارها. ومن هنا لا غنى للمرء عن التوازن والاعتدال في إمضاء الأوقات مع الأصدقاء.

وسألتني ثانيا: ما هي قيمة التخطيط للوقت في المؤسسات التطوعية؟ وهل تخطيط الوقت في هذه المؤسسات ضرورة أم ترف؟

باختصار، أستطيع القول أن تخطيط الوقت وإدارته وتنظيمه ذو قيمة كبيرة في جميع المؤسسات بما فيها المؤسسات التطوعية. ويكون تخطيط الوقت ذا قيمة كبيرة في المؤسسات التطوعية في حال رسُمت لتلك المؤسسات استراتيجية عمل حقيقية لخدمة الفرد والمجتمع. فالصندوق الخيري –كمثال- إذا رسُمت له استراتيجية في تقديم النفع للشرائح المحتاجة، سيجد نفسه من أجل تنفيذ تلك الاستراتيجية بحاجة إلى تخطيط وقته وجدولته، وبدون ذلك سيجد نفسه عاجزا عن تنفيذ تلك الاستراتيجية. وهكذا الحال بالنسبة للمأتم، والمسجد. إن أي مؤسسة تطوعية إذا لم يكن لها استراتيجية عمل (خطة عمل) فالحديث عن اغتنام الوقت واستثماره فيها يبقى سرابا. إن الوقت في المؤسسة التطوعية يكتسب قيمته من حقيقة وجود العمل (وهو العمل الخير هنا)، وبدون وجود العمل فيها يبقى الحديث عن تخطيط الوقت ترفا فكريا وأدبيا. ووجود خطة العمل في المؤسسة التطوعية هو الذي يحدد إن كان تخطيط الوقت ضرورة أو مجرد ترف.

يعز علي أن ينتهي الحوار وثمة سؤال لم تتم الإجابة عليه. ومن هنا يجدر بي أن أمر مرورا سريعا، خاطفا على الأسئلة الأخيرة التي قدمها الأستاذ الفاضل “أبابيل”، لأقول –وباختصار شديد- أن الحضور لخطيب لا بعطي مجلس الخطابة حقه من التحضير والجهد الفكري والثقافي لا يبدو أمرا جديرا، بل هو مصداق واقعي لحقيقة إتلاف الوقت وتضييعه واستهانة بأوقات الآخرين والتسبب في ضياعها. أما عن برامج تنظيم الوقت في عرف الإداريين المتخصصين فهناك مؤلفات عديدة في مجال إدارة الوقت، ويمكن الرجوع إليها. وبالمناسبة فإن معرض الكتاب الأخير اشتمل على مجموعة من هذه الكتب. أما عن تدوين الأهداف وكتابة الخطة في ما يتعلق بحياة الإنسان الفردية فالأمر يعود إلى الفرد نفسه ورغبته، ولكن كلما كانت الخطة مفصلة ومحتوية على اهتمامات وأعمال كثيرة ومتشعبة، كانت هناك حاجة إلى التدوين، والتدوين –كما نعلم جميعا- بوفر علينا الوقت الذي قد نصرفه في استذكار الأعمال، كما أنه يساعدنا في جعل الأعمال ماثلة أمامنا، ويقينا من النسيان.

إن كانت ثمة كلمة أخيرة لي وأنا أودع هذا الحوار الطيب، فإنني أجد نفسي ممتنا لكل الذين أتاحوا لي هذه الفرصة الجميلة، ولكل الذين ساهموا في الحوار بالأسئلة الجادة والمداخلات الهادفة. وأملي من كل أعضاء المنتدى والمشاركين فيه أن يسهموا جميعا في تعميق محتواه الفكري، وفي تمتين جودة المشاركة فيه، وأن لا يكون الطابع العام للمشاركة في المنتدى هو طابع التسلية والترفيه والتفاعل المحدود المقتصر على الشكر، وإن كانت التسلية والترفيه هي أمور لا غنى للإنسان في حياته، وكان شكر المخلوقين من شكر الخالق، فـ ((من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق)).

أرجو أن أكون قد وفقت لبعض الإفادة بما أسعفني الوقت والتأمل والتفكير، وإن كان قد بدا مني تقصير في الإجابة على أي سؤال، أو كانت ثمة فكرة لم يكن الصواب أو التوفيق من نصيبها، فأرجو المسامحة والمعذرة، “والعذر عند كرام الناس مقبول”.


.

تحياتي الجميلة إليك -أخي الحبيب- قيصر، وأشكرك على مبادرتك الطيبة التي تنم عن وعي وإدراك لأهمية الثقافة والفكر في حياتنا وفي نهوضنا، وعن شعور بالمسؤولية تجاه الاجتماع. كما أنني ممتنّ لكلماتك الأدبية الجميلة التي ختمت بها حوارنا هذا، وأرجو أن أكون عند حسن ظن تلك الكلمات الرقيقة، الوفية، المفعمة بالأخوة الصادقة والإحساس الإنساني النبيل.

.

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى