مجتمعاتنا وأخطار “عولمة” التصور الغربي للثقافة

في القديم وإلى وقت من القرن الماضي كانت الأساليب التي تتبعها الدول القوية الاستحمارية (بالحاء وليس بالعين) للنفوذ والهيمنة على الدول الضعيفة تتمثل في القوة العسكرية المتمثلة في السلاح والجيـوش. أما اليوم فلم تعد القوة العسكرية القوة الأولى أو الوحيدة للتسلط والهيمنة وبسط النفوذ. ومن هنا فعالمنا اليوم يشهد وجوها أخرى لبسط النفوذ والهيمنة هي أذكى من نوعها وأخطر من القوة العسكرية. ليس ذلك تقليلا من شـأن فداحة خطر الأسلحة ذات التدمير الشامل التي تهدد العالم في أي وقت، وما هو موجود منها يكفي لتدمير العالم عشرات المرات. ومن هذه الوجوه: الثقافة والاقتصاد التي تشكل مساحة كبيرة من حركة العولمة في عالمنا، ولذا صار هناك حديث عن عولمة الثقافة وعولمة الاقتصاد، وهي ثنائية في منتهى الخطورة حسب المفهوم الغربي للعولمة، إحداهمـا تتوجه إلى تشكيل أفكار الإنسان وتصوراته لتجعله أسير ثقافة الغرب، والأخرى تتوجه إلى محاصرته اقتصاديا لتجعله بمثابة فقير مدقع، أو جائع طاوٍ، أو مستهلك في أحسن الظروف.

وأخطر ما في عولمة الاقتصاد وفق النسق الغربي أن يتحول العالم إلى أغنياء يزدادون ثراء، وفقراء يزدادون فقرا، من خلال سيطرة شركات أخطبوطية، تدعى بالشركات المتعددة الجنسيات على اقتصاديات العالم، في ظل إبقاء المنتجات الوطنية للدول النامية عاجزة عن المنافسة في سوق تعج بالمنتجات الغربية. ومن المعلـوم أن الثروة العالمية حسب إحصاءات الأمم المتحدة تتكدس بيد عشرين بالمائة من سكان الكرة الأرضية، أما الثمانين بالمائة المتبقين فهم يعيشون عند وتحت مستوى الفقر. وبناء عليه، فالعولمة إذا ما سارت على هذا النحو -ويبدو أنها تسير كذلك برأي الخبراء والمختصين- ستجر العالم إلى مزيد من الفقر وبالتالي إلى مزيد من التوتر والعنف والصراع، ذلك أن الفقر باب من أبواب العنف، وهذا أمر طبيعي، إذ البطن الجائعة يمكن أن تفعل أي شيء لسد جوعها. وفي كلمة أبي ذر الغفاري (رض) التاريخية الخالدة عن الفقر والجوع الاجتماعيين خير شاهد على ذلك إذ يقول: “عجبت لمن لايجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرا سيفه”. وفي المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقد في كانون الثاني الماضي في دافوس بسويسرا، حذر الأمين العام للأمم المتحدة من العولمة بصورتها الحالية، مبينا أنها ستجر إلى ردود فعل عنيفة. وقال بأن “الحقيقة البسيطة في هذا الأمر أنه إذا لم يتمكن العالم من جعل العولمة تخدم الجميع، فسوف لن تخدم أحدا في النهاية”، وهي إشارة إلى أن الصراع والعنف سيلتهم الجميع إذا ما غاب التوازن الاقتصادي في العالم، وإذا ما أصر وتمادى جزء العالم الغني أن يزداد ثراء على حساب جزء العالم الفقير.

وفيما يتعلق بعولمة التصور الغربي للثقافة، يشكل هذا الموضوع -كما موضوع الاقتصاد- أبرز التحديات التي تواجه الدول والمجتمعات العربية والإسلاميـة، لأنه يتوجه إلى تغيير الذات بتغيير المفاهيم والتصـورات المعبرة عن الهوية الثقافية للأمة وإحلال مفاهيم وتصورات غربية مكانها. وهل هناك أخطر من أن يُسلب الإنسان تصوره وثقافته وهويته؟! إن ما يميز الثقافة الغربية الحالية أنها ثقافة ممعنة في الليبرالية، ضاع فيها الكثير من القيم والأخلاقيات والحدود والقيود، وهذه الثقافة على تسافلها وانحدارها يراد لها من خلال مسمى العولمة أن تنتشر وتسود في عالمنا -ومنه مجتمعاتنا- جنبا إلى جنب مع عولمة الاقتصاد وخدمة لها من جانب، ولتحيلنا إلى أفراد ومجتمعات بثقافة وتصور غربيين في صورة عرب ومسلمين. يحدث ذلك باستخدام وسائل متطورة، تأتي في مقدمتها الشبكة العالمية للمعلومات، وقنوات البث الفضائي، يضاف إليها وسائط الاتصال والإعلام الأخرى. وللصهيونية دور بارز في هذا السبيل، فلا يخفى على أحد أن التدمـير الأخلاقي هو إحدى الوسائل التي تعتمدها هذه الحركة لإفساد الشعوب وتدميرها.

لقد أوغلت الثقافة الغربية في المادة وفي التسافل الأخلاقي لأنها قامت على نبذ تعاليم السيد المسيح (ع) والتنكر لها. وكان للدور السلبي الذي لعبته الكنيسة في العصور المتقدمة في الغرب آثار مدمرة على المجتمعات الغربية، حينماوقفت ضد تيار العلم والكشوفات العلمية، وأعطت بممارساتها السلبية المبررات لأهل العلم ودعاة التحرر الغربيين للثورة عليها، باعتبارها كانت تمارس الاستبداد والتسلط وتقف بوجه العلم والتقدم العلمي، بل دفعتهم إلى توسيع تلك المبررات والقول بأن الدين (وهو المتمثل في الكنيسة في الغرب) هو السبب الرئيس وراء التخلف الأوروبي، وأن النهضة تكون من خلال عزلها وجعلها مفصولة عن السياسة، في ما يعرف بمقولة فصل الدين عن السياسة، وذلك بجعل الدين عاملا شكليا لاعلاقة له بأمور وشؤون الإدراة العامة.

وبنظرة على واقع المجتمعات الغربية يتبين البون الواسع بين ما جاء به السيد المسيح (ع) من تعاليم روحية وأخلاقية واجتماعية سامية، وبين ما هو عليه الإنسان والمجتمع وإدارته العامة هناك. وفي تلك المجتمعات أمست الكنائس مجرد مبان مظهرية لا يرتادها إلا القليل، وأمسى الذين يبشرون بالمسيحية كعقيدة وسلوك حياتي ونظام أخلاقي غرباء في مجتمعاتهم التي تتسافل روحيا وأخلاقيا وهي ما انفكت تحمل مسمى المسيحية، في وقت هي في غالبيتها العظمى غير دينية على مستوى السلوك والسيرة على الأقل. وأمسى الاضمحلال الروحي وغياب القيم الحدود والقيم الخلاقية من جانب، والإيغال في المادية والبهيمية من جانب آخر، مميـزات للتصور الغربي للثقافة أو للثقافةالغربية القائمة فعلا. ومن خلال مشروع عولمة التصور الغربي للثقافة يراد لنا أن نمسي كما هم، بشر لا يعيرون اعتبارا للقيم الروحية والحدود والقيود الأخلاقية.

إن الأمر هو في منتهى الخطورة، وإن خضوعنا لمشروع عولمة التصورالغربي للثقافة يعني قبولنا بأن تمسـي مجتمعاتنا مجتمعات غير مستقلة، وغير  محتفظة بهويتها، مقلدة أو تابعة، تغيب فيها القيم الروحية والأخلاقية والاجتماعية، يغيب فيها الحياء، مجتمعات لاتختلف عن مجتمعات الحيوان سوى في مسمى النـوع. والأمر الذي لا جدال فيه أن المجتمعات الغربية تعيش أزمة قيم أخلاقية مرعبة،  بل هناك دراسات وبحوث حديثة في الغرب، قام بها باحثون ومفكرون غربيون، تعالج فكرة الاضمحلال في التاريخ الغربي، إدراكا منهم للعلاقة العضوية بين الفساد الأخلاقي وسقوط الحضارات، وما وصلت إليه هذه المشكلة في مجتمعاتهم وإن كانت السياسات العامة وواقع هذه المجتمعات لا يعير اهتماما جديا بتلك الدراسات، ويستمر في الانحدار الأخلاقي، وذلك لتشابك العلاقة بين الربح ورأس المال وبين تسويق الانحلال الأخلاقي. فكيف نتصور حالنا حينما نقبل بهذه الثقافة الممعنة في الليبرالية والتحرر من قيود الحياء والأخلاق؟! إنها أسوء وأخطر صور “الانفتاح” علـى الآخر على وجه الإطلاق. ويساعد الغرب علىالدعاية والإعلان لثقافته بهـدف عولمتها اقتصاد قوي مدعوم بقوة إعلامية هائلة، وتحت تأثير كشوفاته ومنتجاته المتقدمة يحقق الغرب مكاسب على صعيد التأثر بثقافته برغم الليبرالية المقيتة والخواء الروحي الذي تتميز به هذه الثقافة، وبرغم الأزمة الأخلاقية التي تعصف بمجتمعاته. والأنكى من ذلك أن من مثقفينا من يسدون خدمات كبيرة للغرب تارة بالانبهار بكشوفاته، وتارة أخرى بترديد أصداء ما يطرحه من مشاريع لا تخدم مجتمعاتنا، بل تعود عليها بالسوء والوبال، وكأن كل ما يطرحه الغرب ويبشر به هو تقدمي ولاغبار عليه! مثال ذلك الفكـرة القائلة بأن العالم بحاجة إلى قيم جديدة مغلفة بقيم التسامح والابتعاد عن العنف والانفتاح على الآخر، في وقت يعتقدون بأن تخلينا عن ثقافتنا وهويتنـا والانصياع لمعطيات ثقافتهم الممعنة في الليبرالية هي من القيم الجديدة التي يريدوننا أن نأخذ بها. أين هي القيم الجديدة التي ينادون بها في حين نجدهم ينحازون إلى إسرائيل التي تمارس العنف والإبادة بحق الشعب العربي الفلسطيني، ويجعلون أمن إسرائيل -قرينة العنف والإرهاب- في صلب استراتيجيتهم في منطقتنا؟. أين هي قيم الصدق والحياء والشرف والورع وصيانة العرض في تلك المجتمعات؟ إن من أنماط تلك الثقافة التي يريد الغرب عولمتها، نمط الإباحية والبهيمية التي تضج بها مجتمعاته، تلك المجتمعات التي يكون فيها من كل عشرة أشخاص يولدون، هناك أربعة إلى خمسة منهم غير شرعيين، كما تقول الإحصائيات؟ وفي تلك المجتمعات يباع الأطفال بالآلاف سنويا ويصدرون إلـى دول مختلفة بين أمريكا وأوروبا. وفيها يتصدر الإدمان على المخدرات كل النسب العالمية. هذه من جزئيات الثقافة التي سعى منذ زمن بعيد، ويسعى الغرب اليوم لعولمتها وتعميمها، بالعمل على مسخنا وتجريدنا من ثقافتنا لإحلال ثقافته الليبرالية مكانها، ليكون له موطئ قدم بيننا.

وامام ذلك، ليس من الصحيح أن تبقى مجتمعاتنا في موقع المستقبِل الذي لا حول له ولا قوة، أو في موقع المتفرج المردد لجزئيات المشكلة، أو في موقع المسوق أو المستهلك لمنتجات الثقافة الغربية الممعنة في الليبرالية. بل لابد لمجتمعاتنا، علىطريق صيانة هويتها الثقافية واستقلالها أن تتصدى بجدية فائقة لمشروعات عولمة التصور الغربي للثقافة فيها، وذلك لا يتم إلا عن طريق وجود خطة منسقة يشترك في الإعداد لها وتنفيذها المجتمع وإلإدارة العامة على حد سواء. ولابد من برنامج دقيق لحماية النشء وتربيته تربية سليمة تحصنه وتنقذه مـن خطرالوقوع في منزلقات العولمة وبراثنها.

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

22/3/2001م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى