الشهر الكريم الذي متى ما بدأ انقضى: تأملات في رحاب مدرسة الصوم

من الحقائق التاريخية التي أظهرها القرآن الكريم أن الصوم لم يُكتب على أمة الإسلام فقط، بل إنه كُتب على الأمم التي سبقتها. وبديهة أن التشريع الإلهي إنما يكون من أجل غاية يتحقق في امتثالها عبادة الله وطاعته والقربى إليه، ومصلحة يترتب عليها إسهام في نظم حياة الإنسان في هذه الحياة. وهكذا فالصوم لا يخرج عن كونه عبادة، جوهرها الخضوع لله والإذعان له والتقرب إليه من ناحية، والخروج منها بمحصلة روحية وجسمية تنعكس بصورة إيجابية على الإنسان في شخصه روحا وجسدا بصورة خاصة، وفي حياته الاجتماعية وعلاقاته مع بني نوعه بصورة عامة.

وانطلاقا من هذه المقدمة، هناك من ينظر إلى الصوم على أنه محطة روحية قيمة لا تعوض، غنية ومليئة بالفوائد الإيجابية للروح والجسد والمجتمع، وينبغي استثمارها أحسن استثمار. وفي الطرف الآخر، هناك من يفهم من شهر رمضان المبارك أنه شهر مثقل بالجوع وضيق المزاج وقلة العطاء وقلة النوم في الليل وزيادته بالنهار ووجع الرأس، وما إلى ذلك من صور التعب، ويتمنى لو أنه يمر سريعا كسنا البرق، وهو بهذا يظلم هذا الشهر المبارك، وفي الوقت ذاته يظلم نفسه لأنه يحرمها من عطاياه وبركاته، وهو لهذا مدعو لأن يصحح نظرته إلى هذا الشهر الفضيل عموما، وإلى الصيام بصورة خاصة.

الحقيقة أن فوائد الصوم جمة وكثيرة للفرد والمجتمع، بل ليس من المبالغة أن قسما منها لم يكتشف لحد الآن، ويؤكد هذا الميل أنه بين فترة وأخرى تطالعنا التجربة الإنسانية المتأملة والأبحاث الطبية الجادة بفوائد جديدة للصوم سواء على المستوى الروحي النفسي العقلي، أو على المستوى الجسدي الفسيولوجي، ومن فوائده الفائدتان التاليتان:

1- تصفية القلب وتليينه:

إذا جاز تشبيه قلب الإنسان (أو نفسه) بمكربن السيارة (الكاربوريتر)، فإن هذا الجزء (المكربن) يقوم بعملية الكربنة، أي مزج الهواء بالبترول بغية إحداث مزيج متفجر يؤدي إلى الاحتراق الداخلي الذي يترتب عليه سريان الحركة عبر التروس إلى المحاور ومن ثم إلى عجلات السيارة. وهذا الجزء مع التقدم في الاستعمال يتسخ، ومع اتساخه يضطرب دوران محرك السيارة نتيجة للانسدادات الحاصلة في أجزاء هذا المكربن، ولذا لكي يعدل سير تشغيل المحرك لابد من تنظيف هذا المكربن تنظيف جيدا.

وهكذا فقلب الإنسان مثله مثل مكربن السيارة، فهو معرض لأن ترين عليه الآثار المنفية والخِلال السلبية والأمراض الروحية من مثل القساوة، والحقد، والحسد، والغيرة السلبية، والكبر، والغرور، وضعف الحب، والكره غير المبرر، وجفاء الآخرين، وضعف الشعور بحاجات الضعفاء والمحتاجين وبآلام المتضررين والمنكوبين. إن قلب الإنسان معرض للصدأ كما يصدأ الحديد، وكما تصدأ المعادن الأخرى، وبالتالي فهو بحاجة إلى تلك الأداة أو الواسطة التي تخلصه من ذلك الصدأ، والصوم – بلا ترديد- هو محطة وواسطة وأداة فعالة وغنية في تخليص الإنسان من صدأ نفسه، ومن كل ما قد يعتريها ويترسب عليها من آثار منفية، ومن أبرزها القساوة. فالصوم يلين القلب، ويمكّن صاحبه من التخلص من حالة الشدة أو الغلظة التي قد تعتري قلبه وتنعكس على علاقته بخالقه حينما يضعف ارتباطه به وحين يعصيه، وعلاقته بنفسه حينما يهملها ويجعلها مركبا للأهواء الباطلة، وعلاقته بزوجته وأولاده وأقاربه وأصدقائه وزملائه وعموم الناس حينما يتوسل في معاملته معهم بالشدة والجفاف أو الخروج عن حدود العدالة وعن إطار المودة والحب والتسامح والتقدير والاحترام.  وترتبا على حالة التصفية التي يحدثها الصوم في نفس الصائم، ليس غريبا أن نجد الكثير ممن بينهم نوع خصام أو عداوة أو أغلالا نفسية  أو سوء تفاهم مع غيرهم، ليس غريبا أن نجدهم في هذا الشهر الكريم يميلون -بصورة ملحوظة- إلى الانفتاح وتصفية الخلافات بينهم وبين الآخرين، وفتح صفحات جديدة، بل هكذا ينبغي أن تكون الاستفادة من هذا الشهر المعطاء. ما قيمة هذا الشهر إذا مر علينا ونحن لم نتخذه محطة وزادا روحيا من خلاله نحدث تغييرا في ذواتنا باتجاه الأفضل في علاقاتنا الاجتماعية؟! إن من أقسى القلوب ذلك القلب الذي يمر عليه هذا الشهر المبارك دون أن يتخذ منه محطة يعيد من خلالها النظر في علاقاته الاجتماعية المضطربة أو المتشنجة مع من يعيش معهم من البشر.

 

2- عمق البصيرة واتقاد القريحة:

والبصيرة في أبسط معانيها هي العقل والفطنة والعبرة، وعمق البصيرة يعني عمق العقل والقدرة على التفكير والتحليل واستنباط النتائج والدروس والعبر من قضايا وأحداث الحياة. واتقاد القريحة يعني استنباط العلم بجودة الطبع، وهو نتيجة لعمق البصيرة. والصـوم يجعل من هذه البصيرة عميقة ونافذة، بمعنى أنه يجعلها ذات قدرة أكبر على المعرفة والكشف. وربما يقول القائل إن الصوم يتعب العقل، ويجعل المرء غير قادر على التفكير المركز بحكم أنـه يعيش حالة الجوع، فكيف تعمق بصيرته وكيف تتقد قريحته؟ والحق أن هذه النظرة علاوة على أنها تعطي للمخ رسالة سلبية فتشعره بأن الصوم يضعف الطاقة العقلية، علاوة على ذلك هي غير صحيحة، وذلك لأن الصوم من جملة ما يحدثه في جسم الإنسان أنه يحسن من أداء الخلايا العصبية المسؤولة عن القدرة على التفكير والتعاطي مع المسائل العلمية والموضوعات المعتمدة على التصور العقلي. ومن هنا رأينا أن الحكماء والفلاسفة القدماء -مسلمين وغير مسلمين- كانوا يكثرون من الصوم لأنهم كانوا يجدون فيه شحذا لقواهم العقلية ومعينا على تصور الأفكار وتحليل الموضوعات العلمية، إذ الصوم عند الحكماء -كما الصمت- باب من أبواب الحكمة. ثم أن المعدة إذا أُتخمت لا تستطيع التفكير، إذ المعدة المتخمة لا تفكر جيدا، وهذا ما يؤكده الواقع فضلا عن تأكيد السنة الشريفة والطب الحديث. تصور نفسك وأنت قائم من المائدة وأنت متخم، هل بإمكانك أن تفكر، أم أن كل مايمكنك أن تفعله هو أن تعمد إلى الاستلقاء كيما يخف ضغط الطعام على صدرك ونفسك وعقلك. ومن هنا فمن أول الأمور التي ينبغي أن نتعلمها من الصوم هو الاعتدال في تناول الطعام، والابتعاد عن الإكثار منه  وإن كان تنوع الطعام في هذا الشهر الكريم يعد استجابة لذلك الميل الفطري للطعام، والرغبة والفرحة التي يشعر بها المرء في إفطاره بعد ابتعاد لساعات عن الطعام الذي هو طاقة ووقود لحياته. من ناحية أخرى أن الحكمة الطبية تقول بأن الحمية -والتي قد تكون صوما أو قد يكون الصوم جزء منها – هي إحدى أهم مساعدات العلاجات الطبية قديما وحديثا وستظل كذلك.

صحيح أن الصوم قد يؤدي إلى نوع من التعب الجسماني نتيجة للإمساك عن تناول المواد  الغذائية اللازمة أثناء النهار، فهناك من يشعر بنوع اختلال في الطاقة الجسمية والتعب من الصيام باعتبار أن الجسم قد دخل وبصورة مفاجئة في برنامج تغذية مختلف خصوصا مع بداية الشهر، وهذا التعب يتضاءل مع مرور الأيام لتعود الجسم على الصيام. وهناك من يشعر بنوع من التعب في الأيام الأخيرة من الشهر بحكم أن الجسم أمضى فترة أطول في الصيام والإمساك عن الطعام، وكل ذلك يرجع إلى طبيعة الأجسام في التكيف مع هذه العبادة المعطاءة. لكن النقطة الجوهرية هنا أن هذا التعب -وخصوصا إذا تزامن مع برنامج تغذية منتظم- وشعور إيجابي بقيمة الصوم، واستثمار طيب لأجواء هذا الشهر الفضيل تكون له انعكاسات طيبة وكبيرة على نفس وجسم الإنسان، لا يشعر بها من لا يصوم ومن يفهم الصوم على أنه مجرد إمساك عن الطعام، إذ أن لكل عطاء جيد أخذاً جيداً، ومن عطاءات الصوم عمق البصيرة واتقاد القريحة، وقبلها صفاء القلب. جاء في الحكمة: صم يَصْفُ قلبك، وتنفذ بصيرتك، وتتقد قريحتك.

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

26/12/1999م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى