ثلاث قواعد رئيسة في فن التعامل مع الناس

تقول الحكمة : “من يزرع زهرًا، يجنِ عسلاً”، وأبرز الأمور المستفادة من هذه الحكمة أن الأفعال المحمودة الجيدة التي يقوم بها الإنسان في معاملته بني نوعه، والممثلة بالزهر، يقابلها في العادة أفعال أو ردود أفعال من جنسها، أي محمودة وجيدة، وهي الممثلة بالعسل. ومثال على هذا : إعمل على أن تلقي السلام والتحية على عامل التنظيفات، هذا الإنسان الذي يقوم بخدمة اجتماعية جليلة من أجلنا، وهي نقل القمامة والنفايات من أمام منازلنا، وأن تظهر له الاهتمام المخلص، مشفوعا ببسمة لطيفة، وقسمات وجه طليق ينطق عن البشر والبشاشة، ستجد أن هذا الإنسان يتفاعل معن، ويبادلك نفس المشاعر، وربما طلب منك أن يخدمك بخدمة تحتاجها فيما يتعلق بالتنظيف أو غيره. وعليه، فليس ثمة طريق لكسب ود إنسان غير إسداء الحسن له، ولم نسمع ولن نسمع أن إنسانا كسب ود آخر بالإساءة إليه، أو بتجاهله، أو بالتنكر لمعروفه.

هكذا إذن هي قلوب الناس، مفطورة على الحب والإحسان لمن أحبها وأحسن إليها، وبغض من أساء إليها أو تجاهلها أو تنكر لمعروفها، وأرقى درجات التعامل رد الإساءة بالإحسان. إن قلوب الناس مفطورة على الاستبشار بمن يلقاهم -بصدق- بالبشر وطلاقة الوجه، والتقدير، والاعتبار، والاحترام، وإظهار الأهمية. بل حتى ذوي العناد والغلظة والعصبية من الناس، أو ربما المجرمين منهم، وأصحاب النفوس الشريرة تجدهم يلينون أمام إنسان كريم لطيف متسامح يثير فيهم دوافع النبل ويتوسل إليها فيهم، ويعاملهم بصورة طيبة. بل أن من الذين قست عليهم الحياة أو كانوا هم السبب في سلوك طرق غير سوية، تجدهم ينتظرون من يثير فيهم الأمل، ويقدم لهم وردة، أو كلمة طيبة، أو فعلا جيدا، أو معاملة حسنة، تزداد معها ثقتهم بأنفسهم، ويعودون بها إلى رشدهم وإلى خط السواء والفضيلة. وعلى هذا فحجر الأساس في معاملة الناس، والقاعدة الأولى في ذلك أن نعاملهم بالحسن والطيب واللطف، وسنجد أننا نجد منهم المعاملة بالحسن والطيب واللطف كقاعدة عامة.

واستثناء للقاعدة المتقدمة، بناء على أن لكل قاعدة شواذ أو استثناءات، هناك في الطرف المقابل من البشر من يمكن وصفهم باللؤماء، أو ربما الجهلاء، أو ذوي الغرور أو الثقة العمياء بأنفسهم، أو الذين تعرضوا لمناخات تربوية غير سليمة،  أو غير الأسوياء -إذا جاز التعبير- وهم الذي يقابلون الفعل الحسن الصادر من الآخرين بالإساءة والفعل غير المحمود. ومثال هؤلاء مثال ذلك الأعرابي الذي أضاف الضبع في خيمته، وكان منها ما حدث، فماذا كانت القصة؟

يقال أن قوما خرجوا إلى الصيد، فعرضت لهم ضبع، فقاموا بملاحقتها، حتى لجأت إلى خيمة أعرابي، فخرج إليهم الأعرابي، وسألهم: ما شأنكم؟ فقالوا: صيدنا في خيمتك، فقال: كلا! والذي نفسي بيده لا تصلون إليه مادام قائم سيفي بيدي، ثم أنهم رجعوا وتركوه وشأنه. أما صاحبنا الأعرابي فقد آوى الضبع، وأكرمها، وسقاها حليبا وماء حتى شبعت واستراحت وتنعمت. وبينا هو كذلك، أدركه النعاس، فاستسلم لسلطان النوم، فما كان منها إلا أن انتهزت فرصة نومه فوثبت عليه، وبقرت بطنه وشربت من دمه وأردته قتيلا، دون أن ترعى له حرمة، ودون تقدير واحترام لذلك الإحسان الذي صدر منه تجاهها. ثم أن ابن عم له جاء إليه يطلبه، فوجده قتيلا في خيمته، يخور في دمه. ثم أنه خرج من الخيمة وتتبع آثار الضبع حتى أدركها فقتلها، وأنشد يقول: “ومن يصنع المعروف مع غير أهله   يلاقي الذي لاقى مجير أم عامر”. وأم عامر هي الضبع كما يسميها العرب، ومجيرها هو ذلك الأعرابي المحسن المسكين الذي لقي حتفه من جراء مقابلة إحسانه بالإساءة إليه من جانب الضبع.

ولا ينبغي أن يفهم من هذه القصة أن فعل الخير للناس يقود إلى الإصابة بالإساءة منهم، إذ  أن الناس تحسن إلى من أحسن إليها، وتحب من أحبها، وأن على الإنسان أن يمضي قدما في فعل الخير وتقديمه للآخرين كقاعدة عامة. ولكن هذه الشريحة من الناس -وهم اللؤماء- هم الذين يمثلون الاستثناء لهذه القاعدة العريضة، الأمر الذي يتطلب من المرء أن يعي ويدرك أين يضع معروفه وفعله الحسن، سيرا على مبدأ “وضع الشيء في موضعه”. فرب معروف لم يقدره من قٌدِّم إليه، وقابله بما فيه إيذاء وإضرار بمصدر ذلك الفعل. ومن هنا جاء في الحكمة الشهيرة: “اتق شر من أحسنت إليه”.

القاعدة الأساسية الأخرى في فن معاملة الناس هي أن كل واحد منا هو الذي يقرر في داخله الطريقة التي يتعامل معه الأخرون على أساسها، إن قرر خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا، كقاعدة عامة. لننظر أنا وأنت ما قررنا في داخلنا فيما يتعلق بمعاملة الناس، سنجد أن علاقتهم بنا ذات علاقة نوعية ارتباطية بما قررناه في داخلنا، إن كنا قد قررنا حبا ومودة وإخلاصا ولطفا وتعاونا، سنقابل بالحب والمودة والإخلاص واللطف ووالتعاون، وخلاف ذلك صحيح، ولكل قاعدة استثناء.

ومثال هذا: هناك من يشكو بقوله: إنني أكنُّ لفلان الحب والمودة والإجلال، وأشعر بالانجذاب إليه، لكنني أشعر بأنه لا يحبني ولا يبادلني نفس المشاعر، ولا ينجذب إلي، أو لا يعطيني وجها بالتعبير الشائع. ولو عدنا إلى أنفسنا، لوجدنا -في حالات- أن أنفسنا هي السبب في تلك المعاملة الباردة أو الناشفة التي نتلقاها من الآخرين الذين ربما نلومهم على ذلك البرود أو الغلظة واللاانجذاب، والسبب أننا لم نقرر في داخلنا خيرا أو حسنا تجاههم. فكيف ننتظر من الآخرين أن يعاملونا بالحسن واللطف ونحن لم نقرر في داخلنا مثل ذلك؟! إن المألوف أن كلا منا يريد من الآخرين أن يعاملوه بالحسن، ولكي يعاملوه بالصورة الحسنة، ينبغي له أن يقرر في داخله مثل ذلك. ولذلك جاء في الحكمة: “عامل الناس بمثل ما تريد أن يعاملوك”، وكما قيل: إذا بنيت للطرف الآخر بيتا من الزجاج في داخلك، فلن يرميه بحجر.

مع ذلك فقد يأتي الاستثناء، كأن تجد شخصا يقول: يعلم الله أنني لا أكن لفلان إلا الحب والإخلاص والمشاعر الطيبة والرغبة في عمل الخير والإحسان إليه، ولكنه من جانبه لا يبادلني نفس المشاعر، ويقابلني بوجه أشعر معه أنه يحمل من ورائه رغبة عني لا إلي، أو أنه يتجاهلني. وهذه الحالة قد تحصل، ومصدر الإشكال هنا هو الطرف الآخر الذي لم يقدر الشعور الطيب والمعاملة الطيبة التي يُعامَل بها، الأمر الذي يتطلب منه إحداث تغيير في ذاته باتجاه تحسين المعاملة مع ذلك الطرف الذي لا يكن له إلا الحب والتقدير والإخلاص والرغبة في التعاون والمساعدة، وإلا صدق عليه معنى اللؤم أو الغرور أو التجاهل أو عدم التفاعل مع مشاعر الخير، وهي سلوك مذمومة كما هو معلوم.

والقاعدة الثالثة أن يحب المرء للناس ما يحب لنفسه، ويكره لهم يكره لها.,وإني هنا أتساءل: أين نحن من هذه القاعدة العظيمة التي بشرنا بها رسولنا الكريم بقوله (ص) : “ضع عينك على من شئت، وأحب لأخيك ما تحب لنفسك، واكره له ما تكره لنفسك”؟!

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى