أطفالنا.. كيف نوجّه صداقاتهم؟

حينما يولد الطفل تولد معه غريزة الأنس بوالديه، وخصوصا أمه باعتبارها هي التي حملته، وأشد الملتصقين به في فترة الحمل وبعده. ولذا من الملاحظ أن نجد الطفل الرضيع -في حالات- يلجأ إلى البكاء لا لحاجة منه إلى الغذاء، فقد يكون شبعانا ممتلئا، ولا لأي سبب آخر، وإنما لحاجته إلى الأنس، والدفء والحنان من والديه، وبالذات من أمه التي هي أهم جانب بالنسبة إليه. بعبارة أخرى، هو بحاجة إلى الاجتماع أو الاتصال في صورته البسيطة التي ترفع عنه الشعور بالوحشة والغربة من العالم الجديد الذي أتى إليه، أو من توقه وحاجته الماسة إلى ذلك الأنس باعتباره إنسانا. ومع قدوم الأم إلى مهده وإشعاره بأنها معه يميل الطفل إلى الهدوء والاطمئنان والعودة إلى الحالة الطبيعية.

وعندما يبدأ الطفل بالتعرف على ما حوله، وينمو ويترعرع، يتكون لديه ميل إلى معاشرة الأقران، ويكون ذلك فيما بين سن الخامسة والسابعة مع الأخذ بعين الاعتبار التفاوت بين الأطفال في هذا الشأن، ومع ارتفاعه في العمر يتجلى ذلك الميل أكثر وأكثر، حتى يصل إلى سن المراهقة والشباب، فتكون مسألة تكوين الصداقات رغبة من رغباته، وحاجة من حاجاته، واهتماما من اهتماماته، ومظهرا من مظاهر حياته. وذلك أمر طبيعي لأن الإنسان -كما هو معلوم- مفطور على الأنس ببني نوعه ومباشرتهم، ومن هنا جاءت تسميته بالإنسان أو البشر.

والأنس بالآخرين -أو مباشرتهم- هو عملية اتصال اجتماعي، تبدأ في أبسط صورها في السنين الأولى من عمر الطفل، ثم لا تلبث أن تتحول فيما بعد إلى علاقة تفاعلية يترتب عليها تأثير متبادل، مع غلبة للجانب الأقوى في التأثير. ونطاق التأثير المتبادل لا يخرج عن كونه جمالا أو قبحا، إيجابا أو سلبا، حسنا أو سوء، فضيلة أو رذيلة.

والصداقة -إذا جاز التعبير- هي صورة خاصة أو وجه خاص من صور أو وجوه الأنس بالآخرين، باعتبار أن للإنسان علاقات عامة من مثل علاقته بعموم الناس، وعلاقات خاصة من مثل علاقاته بوالديه، وإخوانه، وأصدقائه. ومن خلال علاقته بالأصدقاء والتفاعل أو رد الفعل الذي يبديه أثناء عملية الاتصال معهم، تصطبغ شخصيته بنوع من التأثر المكتسب. ومن هنا يتبين الدور الإيجابي الحسن الذي يمكن أن تلعبه الصداقة فيما إذا تم تأسيسها على ركائز أخلاقية واعية، ومصادقة أفراد جديرين بالمصادقة، حيث تكون علاقة إيجابية تكاملية، ويتبين الدور المنفي،الخطير والمدمر فيما إذا لم تؤسس على مثل ذلك، أو تركت مطلقة بدون توجيه وإرشاد، أو لمصادقة أفراد ليسوا جديرين بالمصادقة. ولذا ليس من المبالغة ما جاء في القول السائر: “قل لي من تصادق أقل لك من أنت”، وفي قول الشاعر: “عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارَن يقتدي”، وما جاء في المثل السائر: “من عاشر قوما أربعين يوما صار منهم”، الأمر الذي يتطلب من الآباء والأمهات والمربين أن يأخذوا صداقات أطفالهم وتوجيهها بشديد الاعتبار.

وقد يتساءل البعض: هل الأطفال بحاجة إلى توجيه الصداقات وهم ما زالوا صغارا؟ ألا يعد ذلك أمرا سابقا لأوانه، أو تحميلا للطفل فوق طاقته ومستوى إدراكه؟ وما الذي يعنيه توجيه صداقـة الطفل؟ هل يعني تعيين أصدقاء له ينبغي له أن يصادقهم تجاوزا لميله وإرادته؟ بعبارة أخرى، هل من الصحيح فرض صداقة معينة مع شخص معين على الطفل؟

بداية، ينبغي للواحد منا أن يعي أن الطفل كائن جديد على هذا العالم، وخبرته في الحياة لا تتجاوز سنوات عمره المعدودة القليلة، ومن هنا فهو بحاجة إلى أن نعطيه من معرفتنا ووعينا و تجاربنا ما ينور حياته مستقبلا ويجعله شخصا اجتماعيا مدبرا، وفي هذا لا غنى للوالدين عن المبادرة في التوجيه والإرشاد، واستثمار عملية “الرجوع الاجتماعي” للطفل إليهما في هذا السبيل، كما في غيره. وبناء على محدودية تجربة الطفل في الحياة، ومنها تجربته في المجال الاجتماعي، ينبغي أن نعلمه مفاهيم الجمال والقبح بما يتناسب ومستوى إدراكه، وأن نعلمه “الحدود” التي بها يميز بين ما هو حسن وما هو سيئ، بين ما هو نافع وما هو ضار. وما من شك أن توجيه صداقات الطفل هو تطبيق عملي لتعليمه معنى الحدود: أن نجلس معه ونعلمه بصورة سهلة ويسيرة أن الصداقة في الحياة هي سعادة من جانـب وتكامل من جانب آخر، أن نعلمه كيف يصادق مثلما نعلمه كيف يأكل ويشرب ويلبس ويلعب،  أن نعلمه أن شخصا بكذا صفات حسنة هو جدير بأن يصادق، وشخص آخر بكذا صفات سيئة ينبغي أن لا يصادق بل يجب الابتعاد عنه والحذر منه. بعبارة ثانية، أن يكون الجمال والقبح المعنويين معيارنا في توجيه صداقات الطفل. أن نعلمه بأن شخصيته تتأثر بشخصية صديقه إيجابا وسلبا.

ومع أن فرض الصداقة على الطفل قد لا يبدو أمرا مقبولا من الناحية العقلية والشعورية، باعتبار أن الصداقة تقوم على الميل الحر المتبادل بين الطرفين، وأن فرضها عليه قد يكون تجاوزا لذلك الميل، إلا أنه في حالات، يكون التدخل المباشر في توجيه صداقات الطفل أمرا ملحا، خصوصا إذا كانت الصداقة مشبوهة، ويمكن أن تترتب عليها أمور لا تحمد عواقبها.

إن توجيه صداقات الطفل هو أمر في منتهى الأهمية، وذلك لأن توجيه الصداقات هو جزء التربية، هذا من جانب. ومن جانب آخر أن الطفل قد يستدرج إلى صداقة فاسدة دون أن يعي عواقبها، وقد يميل إليها بصورة عفوية غير واعية، وربما بحسن نية، فيصيبه ما يصيب منها. وفي هذا السياق ينقل أحد المعلمين الحريصين على طلابهم قصة أحد طلاب الصف الأول إعدادي، فماذا كانت القصة؟ يقول المعلم: كان هذا الطالب وسيما، في الثالثة عشرة من عمره، وفي نفس مدرسته كان هناك طالب آخر يكبره في العمر بثلاث سنوات، مهمل، وقد رسب عدة مرات، وقد تبين من خلال تتبعه ومراقبته وسوابقه أنه تظهر عليه إمارات الشذوذ الجنسي. كان هذا الأخير يحاول دائما التقرب من الأول، بل وصل به الأمر إلى درجة أنه كان يطبع أول حرف من اسمه إلى جانب أول حرف من اسم الطالب الأول جنبا إلى صورة قلب، تعبيرا عن ميله الجنسي إليه. ونظرا لقلة وعي الطالب الأول، وقلة معرفته بالطالب الثاني، أو انسياقه معه، أو ربما خضوعه للملاحقة من قبله، أو ربما تقصير والديه في توعيته صداقيا وتوجيه صداقاته، نظرا لذلك وجد نفسه يتقرب إليه دون أن يعي العواقب الوخيمة التي يزمع الطالب الثاني أن يقوده إليها. ومضت مدة، والملاحقة مستمرة، ومن حسن التوفيق أن الأمر تم تداركه، وأُبلغت به إدراة المدرسة، فأحضرت الطالب الثاني وأخذت عليه عهدا بأن لا يعود لتتبع الطالب الأول ولا غيره من الطلاب، وتم إحضار ولي أمره وإحاطته بالأمر وتوصيته باتخاذ اللازم. ومن الجانب آخر استدعت ولي أمر الطالب الأول وأحاطته علما بالموضوع، وشددت معه على توجيه ابنه للابتعاد عن مسايرة الطالب الثاني، ونبهته إلى ضرورة توجيه صداقات الطفل، وصداقات ابنه بصورة خاصة داخل وخارج المدرسة.

إن هذه القصة ربما تطرح مثالا على الإهمال أو التقصير في توجيه صداقات الأطفال والشباب، فمن المؤسف، هنالك آباء وأمهات لا يعطون لصداقات أولادهم (بنين وبنات) أي اهتمام، فلا يهمهم بنهم من يصادق، وابنتهم من تصادق، بل ولا يقدمون لهم الثقافة والتوجيه والإرشاد لاختيار أصدقاء -أو صديقات- جديرين بالمصادقة، والابتعاد عن غير الجديرين بها، ولا يعد هذا تقصيرا فحسب، بل يتعداه لأن يكون جناية بحق الطفل.

لقد بين تاريخ التجربة الإنسانية والأبحاث الاجتماعية والواقع الاجتماعي أن اختيار الصداقات الحسنة والإيجابية هي الميدان الخصب للتكامل الاجتماعي الإيجابي بين البشر، وشيوع الفضيلة في الاجتماع. كما بين أن اختيار الصداقات السيئة يعد من أبرز العوامل المؤدية للانحرافات السلوكية والأخلاقية في الاجتماع،من مثل الإدمان على الكحول والمخدرات، والشذوذ الجنسي، والسرقة، والجريمة بشتى صنوفها وأشكالها. وهكذا فإن من أهم القواعد في بناء طفل أخلاقي: إعطاءه ثقافة الصداقة، وتوجيه صداقاته باتجاه اختيار الجديرين بالمصادقة، وترك غير الجديرين بها، ومساعدته في هذا السبيل.

بقلم: السيد رضا علوي السيد أحمد

15/1/2000م

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى